يرى أنطونيو غرامشي – الفيلسوف الماركسي الإيطالي الذي قضى تحت التعذيب في سجون موسوليني عام 1937 – أن ما يحكم تعريف المثقف ليس الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني فحسب، بل الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المثقف لمجتمعه.
فكل عمل مهما كان بدائيا ففيه إلى حد ما شيء من النشاط الذهني، بهذا المعنى نفهم مقولة غرامشي «كل الناس مثقفون»، ولكن ليس كل نشاط ذهني يقوم بوظيفة المثقف، وليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع. يقول غرامشي في دفاتر السجن «عندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين فإننا في الحقيقة نشير فقط إلى الوظيفة الاجتماعية المباشرة التي يؤديها المثقف في المجتمع».
المسألة إذن لا علاقة لها بالبلاغة أو كم المعلومات ولا حتى بالإنتاج العلمي أو الأدبي وكثرة الكلام بالندوات والمحاضرات، وإنما تحديدا بما يقدمه المثقف لمجتمعه من دور قيادي يوجهه - من خلاله - إلى الخلاص من هيمنة الدولة، والخلاص من هيمنة الدولة لا تعني أبدا الخروج على القانون أو العصيان والتمرد على النظام، وإنما تعني تحديدا عدم السماح للدولة بأجهزتها البيروقراطية القمعية بالتلاعب بمقدرات الشعب وتبديد ثرواته وحرمانه من حقه في حياة كريمة، وهو ما يحدث بصورة «فوضوية» في الكويت هذه الأيام في ظل غياب دور حقيقي وفاعل للمثقفين الحقيقيين. فالدولة في نهاية المطاف ليست سوى كيان رمزي أو اعتباري هدفه توفير تلك الحياة الكريمة للأفراد، والسلطة ليست سوى «جهاز منظم» مطلوب منه فقط تحقيق هذا الهدف، وهذا هو المعنى الدقيق لفكرة العقد الاجتماعي.
يبين غرامشي أن الدولة (المجتمع السياسي) تتكون من أجهزة يغلب عليها القمع، فهي تتكون من أجهزة ذات طبيعة قسرية (الجيش، الشرطة، القضاء) ومن أجهزة تصنع القانون وتطبقه (البرلمان، الحكومة)، كما تتكون من أجهزة يغلب عليها الدور الايديولوجي (المدرسة، دور العبادة، الأحزاب السياسية) والتي تؤمن للسلطة تمرير دورها السلطوي. وهنا بالتحديد تأتي أهمية دور المثقف الذي يفترض أن يوجد تصورا شاملا أو وعيا اجتماعيا لمواجهة أي خرق أو انحراف في تعهدات الدولة والتزاماتها المطلوبة تجاه المجتمع. وهو ما يسميه غرامشي philosophy of praxis (وهو مصطلح يصعب ترجمته، ولكنه يعني الجانب النظري والعملي في آن معا بالنسبة لدور المثقف، وهو مبدأ أصيل من مبادئ الماركسية)، فالمثقف الحقيقي هو من لا يكتفي بالتنظير الفكري – وهو ما يقوم به معظم من يعتبرون أنفسهم مثقفين – وإنما عليه أن يمارس فعليا دورا سياسيا فاعلا من شأنه أن يوجد سلطة أخرى في مقابل سلطة الدولة إذا جنحت (وهي تجنح دائما)، أي أن يؤسس لحالة من التوازن بين السلطات.
واقعيا، دخلت الكويت مرحلة من التفكك والانهيار بدرجة خطيرة رغم أنها ليست دولة حديثة وتجربتها الديموقراطية ليست بسيطة، فعمر الكويت من عمر الولايات المتحدة الأميركية ومع ذلك لم تتقدم الحياة الاجتماعية نحو النظام والديموقراطية الحقيقية بقدر يكفي لمقارنتها بشركة صغيرة من شركات أميركا، كل هذا بسبب غياب دور المثقف الواعي، باستثناء فترة الخمسينيات والستينيات والتي كانت تضم نخبة من المثقفين الحقيقيين ممن ساهموا في ظهور أغلب ما نتمتع به اليوم من حرية وحضارة. أما الأغرب من ذلك فهو أن يواجه المثقفون الحقيقيون بهجمة شرسة لا تتطرق على الإطلاق لمضمون رسالتهم بل تتناول فقط أشخاصهم وتشكك في نواياهم وأعني مجموعة الـ 26، فنشاط هذه المجموعة يكاد يكون النشاط الوحيد الذي يمكن أن ينطبق عليه مفهوم «البراكسيس» الذي نادى به غرامشي، فهو ليس مجرد تنظير فكري لما يحدث في البلاد من عبث، بل هو نشاط عملي أيضا يستهدف صناع القرار، وهو ما نحتاجه فعلا فلسنا بحاجة إلى كل هذا الاجترار لوصف حالة العبث والجمود والتراجع، فكل هذا أصبح مفهوما حتى لدى الأطفال، فما الخطوة التالية؟
[email protected]