يرتبط المواطن بالدرجة الأولى بوطنه، فالوطن هو الدائرة الكبرى التي يشعر أول ما يشعر بالانتماء إليها، وفيها يجتمع ويلتقي بكل أفراد وطنه الآخرين، مادام هذا الوطن يعاملهم بعدالة ومساواة ويطبق عليهم جميعا نفـس المعايير والقوانيـن بلا تمييز، غير أن هذه الدائرة حتما ستضيق أكثر كلما شعر المواطن بأن وطنه لم يعد تلك الدائرة التي تحتويه وتحتوي غيره، فمن الطبيعي أن يلجأ عندئذ إلى «الاحتماء» بدائرة أخرى تضمن له حقوقه وتحميه من تعسف الدولة، وهكذا يتحول الوطن من دائرة تضم الجميع، إلى «دوائر» تتصارع أمام عجز النظام أو تخاذله، ويتحول الولاء شيئا فشيئا من الولاء للوطن إلى الولاء لتلك الدوائر الصغيرة، أيا كانت مسمياتها، قبيلة، طائفة، حزبا، عائلة...الخ لا يهم التسمية، المهم أن يجد أقرب دائرة تحتويه وتعوضه عن الشعور بالعزلة والخوف من تخلي الدولة عنه والبقاء بلا «ظهر».
إنه منطق بسيط وواضح عاشت عليه البشرية منذ وطئت أقدامهم هذه الأرض، فالإنسان «اجتماعي بطبعه» كما قال أرسطو وبحق، فإن تخلت الدولة عن دورها في أن تكون هي الدائرة الأم التي تضم كل أبنائها، فسوف يبحث هؤلاء الأبناء – تلقائيا – عن أم بديلة، ما يعني نهاية الأم الأصلية وزوالها.
يبدو أن جرعة الحرية التي قدمها لنا قانون المطبوعات الجديد أكبر من قدرتنا على استيعابها، غير أن الغريب في الأمر أننا لسنا حديثي عهد بالحرية، ولـم يكـن هـذا القانـون فتحا جديدا ونقلة سريعة من حال إلى حـال كمـا حدث في العراق بعد سقوط النظام الديكتاتوري الذي عشش فيهم لأكثر من ثلاثين عاما. فنحن لم نكن محرومين من الكلام ثم سمح لنا هذا القانون بهذه الميزة، ولم تكن وسائل إعلامنا مكبلة أو مسيرة يوما، فما الحكاية؟! لماذا لم نعد قادرين على استيعاب الحريـة؟ لماذا نعيش كل هذه الفوضـى؟ إنـه أمـر محزن حقا أن نمتلك كل شيء من مقومـات السعادة والرخاء، ومع ذلك نعيش كل هذه المعاناة والتشرذم والفوضى والصراع والفشل، أمر محبط وواقع «مقرف»، خاصة لمن ليس لديه «دائرة» أخرى غير دائرة الوطن ليحتمي بها من تخاذل الدولة وطغيان الدوائر المدببة.
[email protected]