ناصر الخالدي
فيما مضى كان بائع الايس كريم ينادي بصوت عال «بريّد» ويكررها الى ان يخرج الاطفال فينادوه «حجي حجي» ويقف بعربته الصغيرة فيفتح الصندوق الخشبي ويبيع ما شاء الله ان يبيع ثم يرحل فلا يبقى الا صدى صوته الثقيل يردد «بريد.. بريد» وكنت ممن يغريهم بائع الايس كريم فما ان اسمع صوته حتى تجدني اخرج الى الشارع واقف في عز الظهيرة ألوح له بيدي من اجل التوقف وكل ذلك من اجل ايس كريم.
دارت الايام والليالي وكبرت، ومن عاش فلابد ان يكبر، وجاءني زمن نسيت به صوت بائع الايس كريم ولم تعد عربته تهمني ذاك الاهتمام القديم ورأيتها بعد تقادم العهد مجرد عربة خشبية تجول في الطرقات من اجل البيع وهي وان كانت كذلك فان فيها من قديم الذكريات اشياء لا تنسى وهي مهنة كباقي المهن، فبائع الايس كريم لا يختلف عن بائع الذهب والمجوهرات الا ان الاول يسوق بضاعته للاطفال بينما الثاني يسوقها للنساء واذا كان الاول يبيع بضاعته بأبخس الاثمان فان الثاني يبيعها بكثير المال وهذه ارزاق والحمدلله بلا اعتراض. دارت الايام من جديد كما دارت من قبل، ويا عجبا للايام عندما تدور، فبينما كان وجه المساء يستعد للظهور كنت مترجلا امشي في رطوبة الجو وحرارته ثم صاح المنادي «الله اكبر الله اكبر» فكان النداء لصلاة المغرب وصلاة المسلم لا تؤخر ولا تؤجل، امرها عظيم وشأنها خطير ففيها النجاة والخلاص وفيها الملاذ من كل كرب عظيم، دخلت الطيور اوكارها ونامت عيون النهار فدخلت اصلي مع جموع المصلين لعل الله يغفر لي ذنوبا لست ادريها ثم انتهت الصلاة فخرجت من المسجد منشرح الصدر مرتاح البال عائدا الى حيث يجب ان اعود وفي طريق العودة وجدت عربة الايس كريم وقد انهكني المسير فتوقفت عندها وقلت للبائع اعطني «بريد وماي» ثم تراجعت وقلت له «خلاص بس بريد» فما كان من البائع الا ان قال لي وعلى الفور (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فذهلت من سرعة بديهته وبادرته قائلا هل انت مؤمن بصحة هذه الآية؟ فنظر الي كأنه يريد قتلي وبصوت عال كصوته القديم صرخ بوجهي «نعم» فقلت له «ولماذا انت مؤمن بها كل هذا الايمان؟» «فتصبب وجهه عرقا وقال «اخي ماذا تريد؟ انا مؤمن بها لانها من عند الله» فقلت له لا تحزن يا اخي فكلانا نؤمن بصحتها ولكن الذي يؤمن بهذه الآية عليه ان يؤمن بكل آيات القرآن والله الذي انزل هذه الآية في كتابه العزيز انزل آية اخرى يقول فيها (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) فأين انت من الصلاة؟» واخذ ينظر لي نظرة استغراب فتبسمت له واشتريت منه الماء والايس كريم وانتهينا بعد حوار طويل لو لم انهه لما انتهى.
هناك الكثيرون مثل بائع الايس كريم الذي قابلته يستشهدون بآيات قرآنية في قضاياهم التي يرونها ويتجاهلون كثيرا من الآيات القرآنية الواضحة البينة التي تفسر نفسها بنفسها، وسبحان الله ان دارت عجلة الاختلاف على آية من آيات الله وسبحان الله ان اتفقنا وسبحان الله ان اختلفنا.
جولة
كل الشكر والتقدير للاخوة في المجلس الاعلى لشؤون المعاقين على تفاعلهم مع مقالي الذي تضمن معاناة المراجعين، واخص بالشكر المدير التنفيذي للمجلس الاخ احمد جوهر.