-
يوسف عبدالرحمن يستحق عن جدارة وصف «الملا» لالتزامه الديني التقليدي السمح
-
رحم الله منصور الخرقاوي.. كان حاضراً في حياته في مشاهد كثيرة وفي مماته لم ينزعه الموت من كثير منها
-
نزار قباني.. دوّت له الأكف العربية بالتصفيق، ولايزال نجماً في سماء الشعر رغم رحيله
«الملا يوسف» والخرقاوي
تحمل ذاكرتي الكويتية المتعددة الطبقات والمتغضنة والمتجعدة وذات الأبواب المشرعة لاستقبال كل قصّادها دون استئذان بالدخول، أو نحنحة علامة الدخول ولزوم انزال السواتر والحجب على «حريمها».. تحمل تلك الذاكرة ذكريات لم تمحها السنوات الطوال.
الزميل القديم في هذه الجريدة والذي حط على فنن في غير شجرة «الأنباء» ثم عاد مغردا في سرب «الأنباء».
أعني الزميل «يوسف عبدالرحمن» أو «الملا يوسف»، وصفة «الملا» يستحقها عن جدارة، وذلك لالتزامه الديني التقليدي السمح وهو التدين الذي عرفته الكويت في أزمنتها كلها، وعرفناه نحن حين فتحنا عيوننا وتفتحت مداركنا على صورة الكويتي الملتزم دينيا دون مغالاة وتشدد أو تكسب، لا كما يحدث الآن فيما يعرف بالإسلام السياسي.
كنا نحب «الملالوة» ونقدرهم لصفاتهم السمحة والمحبة المشعة على وجوههم التي نكاد نرى نورا منبعثا منها.
و«يوسف عبدالرحمن» يملك من تلك الصفات كثيرها، فهو متدين منفتح على الجميع وعلى الاتجاهات والأفكار كلها، ولم ينغمس أو ينحبس في سراديب الأحزاب الكذابة، بل بقي حرا سيدا، لا ينجر ولا يهرول حيث السادة طوال اللحى يقذفون حممهم من ألسنة النار.
> > >
مناسبة الحديث لم تكن للتعريف بالزميل الطيب «يوسف عبدالرحمن» أو الاتيان على مناقبه ومحاسنه واعتداله ووسطيته، بل جاءت إعمالا للقول الشائع «الشيء بالشيء يذكر».
فلقد كتب «يوسف» في صفحته الاسبوعية يوم الجمعة الفائت في «الأنباء» كتابة وفية ووافية عن صديقه الشاعر الشعبي المعروف المرحوم «منصور الخرقاوي».
وذلك المكتوب بتهذيب «الملا يوسف»، أعادني إلى شخصية المرحوم «الخرقاوي» والذي بدأ تعلقي واعجابي به منذ كنت فتى دنا من سن الشباب، وذلك من خلال اغنياته التي ألفها وغناها مطربو ذلك الزمن، ولعل أولى سحائب «الخرقاوي» التي انهملت على صحرائي، كانت اغنية «جودي» التي غناها «غريد الشاطئ» ولحنها «حمد الرجيب».
رحم الله الثلاثة.
وتعددت أغاني «الخرقاوي» تنسكب في أسماعنا نغما عذبا وكلاما عاطفيا رقيقا.
في الكبر الأول وأقصد اكتمال الشباب وتوديع مرحلة المراهقة، عرفت «منصور الخرقاوي» معرفة شخصية بحكم عملي مذيعا في اذاعة الكويت، وبحكم تردده الدائم على الاذاعة، حيث كنا في فترة الستينيات المنصرمة زملاء في اذاعة الكويت، وأقصد بالزمالة زمالة المذيع مع الممثل، مع المطرب، مع مؤلف الأغاني.. وهكذا، لأننا كنا قلة وكنا جميعا نجوما في سماء ذلك الوقت بسبب قلتنا العددية، وبسبب توحد المصدر الإعلامي، حيث لم يكن سوى اذاعة الكويت، فكان كل صوت له وقع وصدى عند المستمعين، وكذلك وجود التلفزيون ساهم في انتشارنا كمذيعين ومطربين وخلاف ذلك ممن لهم اسهامات جماهيرية.
ليس هذا بيت القصيد، بل سأعود الى ما بدأته وسحبتني اليه كتابة «يوسف عبدالرحمن» المذكورة آنفا.. عن «منصور الخرقاوي».
معروف عن «منصور» انه كثير الخلافات مع معارفه، وانه كان كثير التدقيق ودقيقا فيما يسمعه او حتى يقرأه، ولكنها خلافات لا تنم عن شراسة أو عصبية حمقاء، بل العكس من ذلك تماما، فهو طيب القلب ولكنه يحب ان ينكش الجوامد، ويحرك البرك الراكدة.
> > >
وفي بدء عقد السبعينيات عرفنا في الإذاعة ما يسمّى ببرامج «البث المباشر» وكنت أقدم أحدها.. وفي حلقة منها ذكرت الشاعر المرحوم «عبدالعزيز البصري» ذكرا حسنا على اعتبار أنه من الشعراء الشعبيين الجيّدين والمبدعين.. وعرضت لقصيدته المغناة «يا بوفهد».. مع اذاعة الأغنية، وهي سامرية جميلة شدت بها «حورية سامي» وكذلك المرحوم «عوض دوخي» رحمهما الله.
وفوجئت في اليوم التالي وبمجرد دخولي مبنى الإذاعة القديم والذي كان عبارة عن مبان قديمة متفرقة يجمعها فناء واحد واسع، فوجئت بكل من يصادفني يقول لي: «منصور الخرقاوي» يبحث عنك، حتى وصلت الى الصديق الشاعر «علي الربعي» وكان صديقا لـ «الخرقاوي» وكثير المداعبة معه.. ويقدر على استفزازه وممازحته وتدبير المقالب الخفيفة له والتي لا تضر.. ولكن لأن «منصور» سريع الانفعال دون تهور، فقد كان «الربعي» يستغل فيه هذه الصفة ويستفزه.
بادرني «الربعي» بقوله: «يا ويلك من منصور» وسلمني ظرفا، فقمت بفتحه وقراءته، فإذا بها قصيدة «هجاء» فيّ هي أقرب للمزاح وليس فيها ما يجرح أو يسيء إلي – من وجهة نظري على الأقل.
المهم في الحلقة المقبلة من برنامجي، قمت بقراءة قصيدة «الخرقاوي» في هجائي، وعللت سبب هجائه لي بإطرائي لـ «عبدالعزيز البصري».
هذه الفعلة مني أغاظت «منصور» واستفزته، رغم انني فعلتها بـ «حسن نيّة»، فلقد اعتبر منصور هجاءه لي عارا لحقني وألبسني الخزي، وانه انتقم لنفسه منّي، ولكن حينما قمت بعرضها وقراءتها على الهواء، عرف ان سهامه طاشت ولم تصبني إلا برشوش الورد، وهذا ما يزعج الشاعر.
والشاعر الهجّاء، هو كالمقاتل الذي إذا ما ضرب خصمه فإنه يروم صرعه أو تحقيق إصابة بليغة فيه، أما إذا طاش سهمه أو نبا سيفه، فإن ذلك يوجعه ويؤلمه، وهذا ما فعلته أنا مع «منصور» دون قصد منّي، لأنني – فعلا – لم أجد في قصيدته ما يُوجع أو يؤلم، وأخذتها على محمل المداعبة الخفيفة، ولم أكن أقصد الاستهانة بشاعريته.
> > >
وما حدث معي، حدث – أيضا – مع كثير من معارف «منصور» وأصدقائه، فقد هجا الكثيرين إن لم أقل الجميع، ولكن أحدا لم يغضب من «منصور» أو يتبرم به لأنهم – جميعا – يعرفون طيبة قلبه وسماحة طباعه، فهو حتى في هجائه لا يحمّل أبياته سموما قاتلة، ولا حرابا مسمّمة، بل إن مجمل قصائده تنطوي على طرافة وظرف.
ورحم الله منصور الخرقاوي، كان حاضرا في حياته في مشاهد كثيرة، وفي مماته لم ينزعه الموت من كثير منها.
> > >
«نزار» في المدينة
و«الشعر بالشعر يُذكر»، ومن «منصور الخرقاوي» الى «نزار قباني» الشاعر السوري الذي دوّت له الأكف العربية بالتصفيق على مدى عقود ابتدأت من أربعينيات القرن العشرين، ولم تنته بوفاته بعد خمسين عاما من نجوميته، فمازالت الأكف تصفق له ميتا مثلما صفقت له حيّا، ومازالت أشعاره تعبئ الفضاء العربي، ومازالت أرفف المكتبات تحمل دواوينه المتناقصة، ومازالت المطابع العربية ترص كلماته، ومازالت العيون في لهفة لقراءتها والآذان في شغف لسماعها.
ومناسبة الحديث عن «نزار» قصيدة نشرها الزميل «عدنان فرزات» في إحدى المجلات التابعة لإحدى الجهات الإسلامية، ونسبها لنزار وقدم لها بهذه المقدمة:
«عرف عن الشاعر نزار قباني انه شاعر غزلي وقصائده سافرة، ولكن قلّة من يعرفون أن لهذا الشاعر قصيدة رائعة قالها في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حين اعتمر وزار المدينة المنورة».
ثم أورد مقاطع من تلك القصيدة جاءت على الشكل التالي:
عز الورود.. وطال فيك أوام
وأرقت وحدي والأنام نيام
قصدوك وامتدحوا ودوني أغلقت
أبواب مدحك فالحروف عقام
أدنو فأذكر ما جنيت فأنثني
خجلا تضيق بحملي الأقدام
أمن الحضيض أريد لمسا للذُّرى
جل المقام فلا وطال مقام
وزري يكبلني ويخرسني الأسى
فيموت في طرف اللسان كلام
أرجو الوصول فليل عمري غابة
أشواكها الأوزار والآلام
يا من ولدت فأشرقت بربوعنا
نفحات نورك وانجلى الاظلام
أأعود ظمآنا وغيري يرتوي
أيرد عن حوض النبي هيام
كيف الدخول إلى رحاب المصطفى
والنفس حيرى والذنوب جسام
ماذا أقول وألف ألف قصيدة
عصماء قبلي سطرت أقلام
مدحوك ما بلغوا برغم ولائهم
أسوار مجدك فالدنو لمام
ودنوت مذهولا أسيرا لا أرى
حيران يلجم شعري الإحجام
وتمزقت نفسي كطفل حائر
قد عاقه عمن يحب زحام
حتى وقفت أمام قبرك باكيا
فتدفق الإحساس والإلهام
وتوالت الصور المضيئة كالرؤى
وطوى الفؤاد سكينة وسلام
يا ملء روحي وهج حبك في دمي
قبس يضيء سريرتي وزمام
أنت الحبيب وأنت من أورى لنا
حتى أضاء قلوبنا الإسلام
> > >
ليس غريبا ان يتبتل «نزار» ويتوسل ويغسل ذنوبه ويسكب دموعه ويلتحق بقافلة شط عنها وابتعد! فليس ذا محل جدل ولا مماحكة، فللشعراء عوالمهم المرسومة على خارطة كلماتهم، ولهم أجنحة تعلو بهم الى الجوزاء ـ إن أرادوا ـ او تهبط بهم تحت سفح مثلج.
وأمير الشعراء «أحمد شوقي» الذي قال:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي
مشتاقة تسعى إلى مشتاق
هو نفسه القائل في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري
بمدحك بيد أن لي انتسابا
مدحت المالكين فزدت قدرا
وحين مدحتك اجتزت السحابا
وغير ذلك قال الكثير في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، كما ان كثيرا من شعراء المجون والخلاعة كانوا أشد رقة وأعذب شعرا في توبتهم وتبتلهم الى الله.
ولكن الذي أردته من إيراد ذلك كله ونشر قصيدة «نزار» لم يكن بقصد ترويج القصيدة او الاعجاب بخطها او لسيطرة الاستغراب علي لنشوز هذه القصيدة عن شعر «نزار» المعروف، ولكن لأظهر شكي المبرر بوجود هذه القصيدة بين قصائد «نزار» لا لشيء، ولكن لأن الزميل «عدنان فرزات» الذي نشرها في صفحته تلك، لم يجعل لها هامشا نستدل ـ نحن القراء ـ من خلاله على المصدر الذي يؤكد نسبة القصيدة لنزار قباني، فلم يذكر في أي ديوان وردت ولا أين نشرت أو متى وبأي مناسبة ألقيت، بل تركها ـ هكذا ـ جرداء عارية غير مؤزرة بإزار يؤزر عورتها المكشوفة، حتى لا تبدو هكذا مرمية على قارعة الطريق دون ان تكتنفها يد أبيها.
وما دام قد قدمها بتلك المقدمة وفيها دلالة استغراب أو جدة على ما عرفه القراء عن شعر «نزار قباني» فقد كان حريا به أو لزاما عليه، ان يذكر مصادره حتى لا يخالج القراء الشك، وليتأكدوا ان هذه القصيدة هي نزارية ـ فعلا ـ وليست منحولة.
ولربما كان النقاد وقارئو شعر «نزار قباني» قادرين على تمحيص تلك القصيدة، وما إذا كانت من بنات «قباني» الشعرية، أم انها تدعي الانتماء اليه زورا لـ «غرض ما»؟
والنحل او الانتحال معروف في الشعر العربي وكثير جدا، وفي مختلف العصور، وهناك مؤلفات عديدة ألفت في ذلك، فإن رمى رام قصيدة «نزار» تلك برمية «الانتحال» وشكك في نسبتها، فقد يكون محقا، لأن «نزار قباني» شاعر معاصر عاش في عصر التوثيق المباشر ودواوينه وأمسياته الشعرية أغلبها ـ إن لم أقل جميعها ـ موثقة ومعروفة لدى متابعيه وللنقاد كذلك.
ولكل ما تقدم نشرت تلك القصيدة لمزيد من التأكيد وإزالة ما قد يعلق بها من شك وهو ـ لاشك ـ وارد!
[email protected]