- البعض عندما يهمّ بالحديث عن المرأة يقول: «كرمكم الله»!
- في أخبار الزيجات يحضر اسم العريس ويغيب اسم العروس وعائلتها
- محمد حسين هيكل كتب روايته الأولى ونسبها لـ «فلاح مصري» لأنه محامٍ
- الحزن ليس حالة سلبية ولا هو انكفاء بل حالة خلق إنساني يـرمم فيها انكسارات غيره
الكلام وشهوة الأسرار
رغم أن شهية العرب للكلام مفتوحة على الدوام ودوام الدوام، فإنهم أيضا يتكتمون ويصومون عنه أحيانا، ولديهم الكثير من الأقوال المأثورة التي تحض على الصمت وتعلي من شأنه وتعز من قدره.. مثل قولهم «الصمت زين والسكوت سلامة» أو قولهم الدارج «من كثر هذره، قل قدره»، وأيضا تقول العرب «المجالس أمانات» وكذلك يقولون «ليس كل ما يعرف يقال» ويأتي ذلك من باب حفظ الأسرار، وعدم كشف العورات. لذلك فإن حكومتنا الموقرة التي يجول رئيسها الآن في أصقاع الأرض البعيدة، في دول أميركا اللاتينية بحثا عن مدربين لتدريب فريقه الحكومي تلجأ كثيرا الى الجلسات السرية لحفظ الأسرار والعورات. ولكن البعض يبالغ في التحفظ والمداراة، فيتكتمون على كل شيء التزاما منهم بتلك الأقوال المأثورة وحتى لا يُفشى بين الناس أنهم نمامون أو غير مؤتمنين فيتحاشوهم ولا يخالطوهم ولا يجالسوهم خوفا من ألسنتهم النمامة.
لا تصدقوا نابليون
والعرب أقوام محافظة، لا يحبون إفشاء أسرارهم، وتكثر عندهم الأسرار، وبالذات في منطقتنا ـ دول الخليج العربية ـ فنحن كثيرو التكتم، بعضنا يتكتم خشية الحسد و«العين الحارة اللي ما صلت على النبي» والبعض الآخر يتكتم من باب حفظ أسرار «العائلة» وكأنما هي عائلة «كنيدي» أو عائلة «روكفلر» أو عائلة سلطان «بروناي» الذي يقال إن قصره يحتوي على 365 غرفة، بعدد أيام السنة. أما هذه العائلة المحترمة التي يخشى عليها من إفشاء أسرارها.. فإن أسرارها المزعومة لا تغري فضوليا، ولا تفتح أذن متطفل.. لأنها أكثر انتشارا مما يحويه حبل الغسيل.. أما قمة التحفظ فهي في وجود امرأة بالموضوع.. وإذا كان نابليون يقول «فتش عن المرأة» فنحن نقول «كتم على المرأة»..
كرمكم الله
يقال إن البعض عندما يهمون بالحديث عن المرأة يبدأون كلامهم بعبارة «كرمكم الله»، أنا شخصيا لم تمر علي هذه الفصيلة البشرية التي أظنها انقرضت مع انقراض قانون «اسقاط القروض»، ولكن مرت علي وعليكم جميعا فصيلة الذين يتحرجون من ذكر أسماء نسائهم، فيقولون «الوالدة» و«الرضيعة» و«المرة» أو «أم العيال» حتى وإن لم يكن عندها عيال. والمنفتح منهم يقول «أم فلان». وأنا وأنتم أيضا نلاحظ أنه في أخبار الزيجات التي تنشرها صحفنا، لا يرد اسم الزوجة أو العروس، والبعض يغيب حتى اسم عائلتها. ويقال إنه من المعيب لدى بعض الفئات الاجتماعية حضور أهل العروس من الرجال حتى ولي أمرها حفل زواجها الرجالي، وكأنما المسكينة قد أثمت إذ تزوجت!
حتى في الموت
ومن زيجاتنا إلى وفياتنا لنرى أن المرأة حين تموت يقولون زوجة أو أرملة «فلان» بينما حين يموت الرجل لا يقولون زوج فلانة. وهكذا يستمر إهدار حقوق المرأة حتى في الموت، فنقرأ مثلا في بعض إعلانات التعزية التي ينشرها أهل المتوفى أنه والد فلان وفلان، ويعددون أسماء أبنائه الذكور دون أي ذكر لبناته، رغم أنه قد يكون من بناته من هن أكثر قيمة وأعلى قدرا وأهمية في المجتمع من إخوانهن الذكور، ولكن دائما «الواد يكسب».
ولا ننسى المقولة المصرية الخالدة التي لا يكاد يخلو منها فيلم من الأفلام وهي «ضل راجل ولا ضل حيطة» أي ان ظل الرجل أوفى وأعم من ظل الحائط!
أما أنا فأفخر بجميع النساء اللواتي أنتمي إليهن أو ينتمين إلي.. أمي اسمها «سارة» وزوجتي اسمها «فاطمة» وبناتي «سندس» و«ورقاء» و«يسار» وحفيدتي اسمها «سارة» وأخواتي ست، أسماؤهن: «لولوة»، «عايشة»، «بزة»، «غنيمة»، «شيخة»، «بدرية»، ولو كان من متسع لذكرت أسماء بناتهن وحفيداتهن وبنات الحفيدات أيضا، هذا لو أسعفتني الذاكرة.. ولن تسعف!
زينب
أثناء قراءتي لقصة «زينب»، وهي أول قصة أو رواية عربية، وهذه المقولة محل تشكيك من قبل بعض النقاد أو المؤرخين الأدبيين حيث إن بعضهم وبالذات من السوريين والعراقيين ادعى أن «زينب» لم تكن أول قصة عربية وأن في الشام أو بغداد سابقات لها، و«زينب» المصرية أصدرها صاحبها محمد حسين هيكل عام 1914 وباسم مستعار هو «مصري فلاح»، وقد فرغ من كتابتها عام 1911، وكان مترددا في نشرها خشية أن تؤثر عليه صفة الأديب وتطغى على صفته المهنية كمحام، في وقت كانت فيه مهنة المحاماة مهنة الكبراء والأعيان والوجهاء، لذلك لجأ إلى التأجيل وسيطر عليه التردد حتى توصل إلى فكرة الاسم المستعار حيث تم النشر.
الشاهد ليس في المعلومة التاريخية أو الأسبقية، ولكنني التقطت أثناء القراءة وبعدها نقطتين هما اللتان دفعتاني للكتابة عن «زينب»، أولاهما: البلاغة اللغوية التي كتبت بها هذه القصة والحرص على الجزالة والألفاظ والمفردات اللغوية ذات الجرس القديم أو ما نستطيع تسميته بالتراثي، وهو الأمر الذي لم ينتهجه كتّاب القصة أو الرواية العرب فيما بعد، حيث هم يكتبون بما يمكن أن نطلق عليه لغة العصر أو اللغة المحكية الحديثة التي يسهل فهمها لدى عامة الناس، هذا فضلا عن بطء الحدث في القصة، واللجوء عوضا عن ذلك إلى الإنشاء والوصف البديع.
أما النقطة الثانية التي استحوذت على اهتمامي في قصة «زينب» فهي تهمنا نحن ككويتيين أو كخليجيين على وجه العموم، وهي في ورود كلمة «بشت» في القصة وبالمعنى ذاته الذي نستخدمه نحن، أي «العباءة الرجالية»، وإن كان استخدام «البشت» في القصة قد اقتصر على أنه رداء لاتقاء البرد، بينما هو عندنا إضافة لذلك، لباس رسمي، يرتديه الوجهاء والرسميون وعلية القوم، وهو من مستلزمات البروتوكول في اللقاءات الرسمية.
أما سبب استحواذ كلمة «بشت» على اهتمامي لورودها في قصة «زينب»، فهو أنني لم أجد لها ذكرا خارج محيطنا الخليجي، قبل أن أجدها في «زينب».
فهل مازالت كلمة «بشت» حية وموجودة ومتداولة في الريف المصري حيث مسرح القصة ومكان أحداثها؟ أم ان الزمن طواها، واندثرت كما هو شأن الكثير من الكلمات التي يطويها الزمن تحت جناحيه، إذا ما أحس أن الألسنة ليست في حاجة إليها؟
أما زال في الحياة بقية؟
بلى.. بل هي بقايا.. لا بقية واحدة.. بقايا تتناسل.. تتخلق داخل أرحام ذواتها..
إن ما يذهب أو من يذهب هو أقل بكثير من الباقي.. الباقي ليس هو الأدوم، ولكنه الأكثر..
إن الحياة تسلم للموت نصيبه اليومي من أبنائها، ولكنها تحتفظ بالعدد الأكبر.. وكل مدخر منهم سيكون يوما.. وكما قال الشاعر «على آلة حدباء محمول»..
لم يمر علي اسبوع في الأشهر الأخيرة... إلا وقد أسلمت الحياة لصاحبها الموت قريبا ذا وشيجة دم بي، أو صديقا باعدت الأيام بيننا حتى نعى به الناعي وسار الخبر في أوصالي يلجلجها ويرجرجها، ورحت أضرب في فيفاء الحياة عصاتي، أتنكب مشاقها وأركب صعب أهوالها.. شارد البال.. كسيفا.. شديد اليأس والحسرة.. متألما متأملا، متى تحين الساعة..؟ متى تدق باب الحياة، يد الموت؟
في الحزن تبقى وحيدا.. حتى وإن أحاط بك الطيبون والمطيبون.. وسقوك شهد الكلام.. لأن الحزن يسلب منك قدرتك على الاستيعاب.. يتساوى فيه شدو الشادي ونعي الناعي..
في الحزن.. ليس من ذات إلا ذاتك.. وليس من صوت إلا صوتك..
لا يسمع الحزين إذ ذاك إلا صوته..
يخلق الحالة ويتخلق بها..
والحزن ليس حالة سلبية.. ولا هو انكفاء ولا انكسار ولا انطواء..
إنه حالة خلق إنساني.. يخلق فيها الإنسان نفسه.. أو بعض نفسه.. وربما يرمم فيها انكسارات غيره.. بل هو كذلك.
[email protected]