-
ذهبت إلى دمشق أدق بابها حتى تأذن لي بالدخول ففوجئت بالباب مفتوحاً لي قبل أن تلامسه أصابعي
-
قدمي الآن هي قدمي القديمة موطئها الآن هو موطئها القديم..كل ما في الأمر أن القدم كبرت قليلاً وصار وطؤها على الأرض أثقل
-
ماذا يفعل من احترف الحرف واحترف الكتابة وحفظ الذكريات وأشعل سراج ذاكرته حتى يضيء عليها فلا تموت من وحشة الظلمة
من قاع الذكرى
دمشق في ذاكرتي منذ اكثر من خمسين عاما، لم تنم ـ الذاكرة ـ يوما ولم تغفُ، الا ما تقتضيه سِنة النوم لا سَنته.
خمسة وثلاثون عاما.. مرت لم ازر خلالها دمشق.
ذهبت اليها قبل اسبوع ادق بابها حتى تأذن لي بالدخول، ففوجئت بان الباب ينفتح لي قبل ان تلامسه اصابعي الدقاقة المرتابة المترددة الخجلى.
ذهبت اليها، لا بحثا عن وجه جدّي، ولا للثم شعر جدتي والتعطر ببخوره، ولا بحثا عن وجهي في «بردى»، فلست «نرسيسا» ولا «نرجسيا» ابحث في صفحة الماء عن وجهي «النرسيسي النرجسي».
بل رحت اتلمس خطواتي واقتفي آثارها، امشي حيث مشيت قبل ما يزيد على نصف قرن، تصافح عيناي تلك البيوت التي عاشرتها معاشرة المحب لمن يحب، من حيث الاحتواء الكامل، أحاول ان اسمع صوتي، كيف كان آنذاك وانا في طفولتي المتأخرة، او متدرجا في مدارج الصبا، من احبت عيناي، آنذاك، لمن خفق قلبي، من عرفت، من صاحبت، من صادقت، من فرش في دروبي سجادا أحمر، ومن نثر الشوك وزرع المسامير تحت اقدامي؟! من، ومن، ومن، و«منمنات» كثيرة اثقلت ذاكرة عمرها خمسون عاما، واتعبت حراسها الأمناء الاشداء الاقوياء.
هل خانت تلك الذاكرة العجوز او وهنت؟!
كلا، ما وهنت وما ضعفت وما تعبت ولم تعجز، مازالت صبية بهية نشطة كغزالة قادتني في شوارع «دمشق» المحفورة فيها والمحفوظة في تجاويف سنيها وغضون ايامها وتجاويف لياليها.
ها أنا اعود خمسين عاما اقف امام البيت الدمشقي الذي اسكنني وسكن روحي حينذاك، صحيح ان البيت لم يعد بيتا، ولكن الارض التي تدور لا تغير المواقع ولا تزحزحها قيد انملة.
قدمي الآن هي قدمي القديمة، موطئها الآن هو موطئها القديم، كل ما في الامر ان القدم كبرت قليلا، وربما صار وطؤها على الارض اثقل.
جامعة دمشق القريبة من ذلك البيت، كانت هي دليلي اليه، وسكة القطار الممدودة امامه كانت دليلا اكثر ايضاحا.
بعض العقول لا تحفظ
لملمت حروف هذه الكتابة من قاع الذكرى والذكريات والتذكر.
غصت اليها في قاع زمنه يزيد على نصف قرن وكذلك عمقه.
حين تطوي السنوات السنوات، فهي لا تقتلها ولا تحرقها، بل تودعها في المخزن، علَّ حاجة اليها تستجد في يوم ما.
وانا احتاج الى الذكريات اكثر من احتياجي لمستجداتي اليومية.
الابقاء على الذكريات، هو مثل الدفاع عن المتهم البريء الغائب الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه لإثبات براءته.
بعض العقول وربما القلوب، لا تحفظ الذكريات ولا تخزنها، وبالتالي لا تدافع عنها، لانها ـ بالتأكيد ـ لن تدافع عن اشباح غير موجودة فيها ولا تعلم عنها شيئا.
انا افعل عكس ذلك، احفظ الذكريات واخزنها واسوّرها واسيّجها حتى لا تفلت مني، فأعيش بلا ذاكرة، تتخبطني الدنيا خبط دائخة عوجاء.
ومن يُهدر ذكرياته، يكن كمن يفرط في اعز ما يملك.
لان اعز ما نملك هو ذكرياتنا وامسنا، اما اليوم فهو ليس لنا، ليس يومنا، لنا منه الطرف الذي نعيشه، وربما يفلت منا طرفه الآخر، اما الغد فلا ملكية شرعية لواحدنا فيه، ولا صك يؤكد ملكيته له، فهو مازال في الغيب، ولا يحق لنا ان ننسبه الينا ونقول «غدنا»، على عكس الامس الذي ثبت شرعا وقانونا انه لنا ونحن من يملكه، وبتنا ـ وبفخر نقول ـ «أمسنا».
أسرفت، أطلت، أطنبت في تعريف صفحة الذكريات، ولكن لي عذري في ذلك، فماذا يفعل من احترف الحرف واقترف الكتابة وحفظ الذكريات واشعل سراج ذاكرته حتى يضيء عليها فلا تموت من وحشة الظلمة ومن سواد العتمة ومن تزوير المتطفلين عليها ممن لم يحفظوها ولم يحاولوا حمايتها ولم يدنوها من عقولهم، ولم يشعلوا لها سراجا حتى تعيش وتتوهج وتحيا؟!
حامل البُشرى
بعد وقوفي امام ذكرى ذلك البيت الدمشقي الخمسيني الذكريات والذي لم يكن لي فيه سوى صيفية قضيناها فيه عام 1957 بصيغة استئجار، أقفلت عائدا الى امس آخر.. وإلى ذكرى اخرى، قاطعا الطريق الى حي «الروضة» المتداخل والمتمازج مع حي «بورمانا» الشهير.. تعمدت ان تكون قدماي هي دابتي وهي حاملتي الى حيث اريد.. ولاختبار ذاكرتي وان مازالت تحفظ الطريق وتعرفه، ورغم ما حل في دمشق من تحديث في شوارعها وفي الجسور التي ركّبت فيها واختصرت كثيرا من المسافات وسهلت المرور في طرقها وقربت المسافات بين احيائها، فإنني وبسهولة اهتديت الى طريقي وعرفت ان ذاكرتي وفية ولم تشخ ولم تعجز.
وقفت أمام سور ذلك البيت الذي كنت في يوم من الايام او في سنة او دهر احد ملاكه.. لي فيه زاوية او حائط او حتى بعض ياسمين حديقته، وغدا اليوم ملكا في يمين غيري، ليس لي فيه إلا الذكريات.
وقفت متذكرا ومستعيدا ذكريات لم يطوها الزمن ولم يمحها.
تذكرت ذلك الصباح الذي دُق فيه باب ذلك البيت دقا عنيفا ومدويا ومجلجلا.. بغرض ايقاظي ولم يكن في البيت سواي يومها.. فطرت من النوم الى حيث الباب المدقوق أستطلع أمر ذلك الطارق العجول.. وما ان فتحت الباب متثاقلا وجلا مرتعدا من ذلك المجهول.. حتى دخلت البشرى تحلق بأجنحة من ذهب..
قال المبشر: قم لقد غدوت أبا..
هل من فرحة في الدنيا.. تعادل فرحة اب يدخل عالم الأبوة لأول مرة في حياته؟!
تلك ذكرى محفورة في ذاكرتي.. كان شاهدها والشاهد عليها ذلك البيت، فهل يطاوعني قلبي للتنكر لذلك البيت حيث ولادة تلك البشرى؟!
لا أغسل ذكرياتي بالدموع.. من قال إن الدموع تطهر الذكريات؟! من ذا الذي يطالب بتطهير الذكريات.. أليست هي أطهر من الدموع؟!
زوّادة الزمن
تذكرتنا ـ نحن سكان ذلك البيت ـ فمنا من قضى نحبه، ومنا من ينتظر.. وانا من المنتظرين.
هل حفظ أولئك الأموات لذلك البيت شيئا من الذكريات؟! ام ان ذكرياتهم فيه ماتت قبلهم؟! وهل الأحياء منهم يحملون إليه شيئا من حنين؟! ام ان الأمر لا يؤشر الى شيء.. وما هي إلا أيام تنقضي هنا او هناك!
من لا يعشق الأماكن.. لا يحب البشر.. من لا يحن الى أمسه لم يعشه.. غردت طيور ذلك الأمس في مسامعه ولكنه لم يسمعها.. مرت عيناه على أشجار وأنهار ومبان ولكنهما لم تريا منها شيئا.. صافحته اياد ولكنه لم يلامسها..
كان حيا ميتا.. من لا يتذكر فهو ميت بالضرورة.. ما معنى حياة تعيشنا ولا نعيشها؟!
الوفي هو من يحفظ الوفاء للأماكن.. فليس البشر المتجملون وحدهم.. هم الذين يستحقون وفاءنا.. ما ذنب الأشياء ألا نكون أوفياء لها.. حتى وان كانت جمادا ندّعي انه بلا إحساس..
أليس أصل الأشياء ماء وطينا.. ونحن البشر ألسنا كذلك.. من ماء وطين؟!
أعترف بأنني وبقية البشر على درجة فائقة من الأنانية نحملها للمدن..
نحن نكبر ونتغير وتختلف أحوالنا ونجاهد في سبيل الأفضل لحياتنا من مأكل وملبس ومشرب ونتعلم ونعمل من اجل ان نكبر ونكون قريبين مما يحقق طموحنا.. ولكننا نرفض ذلك للمدن.. لا نريد لها ان تتحرك او تتغير او تتسع او تسلخ جلدها القديم لترتدي جديدا عصريا يحقق لنا نحن سكانها او محبيها سبل الحياة ويسهل لنا العيش فيها..
لذلك كلما رأينا مدينة تكبر وتتجدد.. رحنا في نوبة لوم وعتاب وتحسّر على ما كانت عليه تلك المدينة من براءة وبدائية..
نبكي طرقنا القديمة.. ولماذا صارت شوارع فسيحة.. وبيوتنا القديمة لماذا أزيلت ليحل محلها أبنية عصرية خدمية او حدائق او مــــنافع لنا؟!
من حق المدن ان تكبر مثلنا نحن البشر وتتغير وتتجدد وترتقي وتسلخ بالي جلدها المتهتك حتى لا تموت.. من حقها ان تحقن نفسها بحقن الحداثة والتجدد والحياة.
إن الأصالة شقيقة، بل توأم للحداثة، لا تنفيها ولا تتعارض او تتقاطع معها ولا تقطعان حبال الود بين بعضهما، فتذهب هذه شرقا وتتجه تلك غربا، والمدن ليست اسيرة الماضي ولا يجب ان نحبسها في ذلك الماضي بكل ما فيه من حسنات حولتها الأيام الى سيئات او على الأقل الى قصور عن اللحاق بقطار العصر.
نحن نطلب العصرنة في كل الأشياء من حولنا، ونستورد كل جديد تنتجه الآلة الصناعية، بينما نستكثر ذلك على المدن، نريدها ان تظل تحت سقف خيمتها تحلب شياهها وتغزل بيديها اصـــواف اغنــــامها وتحدو قوافلها نحو الماء والكلأ.
لابد للمدن ان تشبه اهلها، مثلما اهلها لابد ان يشبهوها بالتفاصيل الدقيقة كافة، لأنهم ـ هم ـ صانعو مدنهم وهم المسؤولون عن تفاصيلها وعن صوغ طبيعتها من حيث الحداثة والاكتمال او القصور والتخلف.
داخل الأصـــالة تتسلل الحداثة وتتوغـــــل فترتســـم لوحة جميلة متكاملة تجمع الماضي بالحــــاضر والأصالة بالحداثة.. وهذا ما تفــــعله كثير من المدن بحيث تحافظ على الشكل الخارجي لها بينما تمتـــد يد الحـــــداثة الى داخل احشاء المباني التراثية لتجعلها قابلة للعــــيش في قلب العصر، فلا تتحــــول الى عبء يثقل مســــيرة المدينة.
فيا محبي المدن القديمة.. لا تبكوها فمن يحب لا يسعى الى كماله وحده.. بينما لا يريد ذلك لمحبوبته.
حملت على ظهري زوّادة الزمن والذكرى والحنين، وملأتها بما أراه يستحق ان يسجل وان يجري فوق الصفحات وان يطل من خلال الحروف.
وربما ما أفرغته من حمولة تلك الزوادة، هو قليل مما زال داخلها وهو جميل ايضا.