حين كنت تلميذا بالابتدائي منذ اكثر من نصف قرن كان احد كتبنا يتكلم عن الكويت وشعبها، وشدتني جملة لم أقتنع بها ولم أنساها وهي «إن أغلبية الكويتيين يفضلون التجارة على الوظيفة الحكومية»، وتدور عجلة الزمن وتصدق هذه الجملة، ونرى أغلبية الشعب الكويتي يمارسون التجارة وربما اصبحوا تجارا (لم أقل أغنياء) يبدأون بالعمل التجاري كتسلية ودلع ثم تصبح ولعا، كأن يسافر لقضاء عطلة الصيف فيجلب معه بضاعة ليبيعها في الديوانية، أو كبعض النسوة يقمن بتصاميم لفساتين او مفروشات ويسويقنها من خلال البيوت او المدارس، ثم ظهرت موضة الأكل والمنافسة البطنية، والشيف الفلاني، أن التجارة تسري في أبدان الكويتيين مسرى الدم في الشرايين.
الطريف أن الوافدين أصابتهم هذه العدوى، لذلك عندما يتصادق كويتي مع وافد تحوم فكرة التجارة في رؤوسهما، ولكن لكل منهما هدف بعيد عن التجارة والدينار.. الأول يريد «برستيج» ووجاهة، ومكتبا وسكرتارية، والآخر يفكر بالإقامات، وكروت الزيارة والتحاق بعائل وفتح ملف عمالة بالشؤون لتشغيل الأقرباء والأصدقاء (طبعا بثمن)، وربما «له مآرب أخرى» ولكن «ما كل من عشق الهوى عرف الهوى»، لذلك ترى التسلسل الرقمي للرخص التجارية يفوق عدد سكان الكويت، لأن أغلب الرخص كالشمعة تبدأ زاهية منتصبة لكن شعلة النار (السوق) لا ترحمها فتذوب وتختفي بسرعة، ويتكرر المشهد دون «أخذ العظة فيما مضى»، فحين تتسوق في الأسواق الشعبية وترى صغار التجار وخصوصا من الوافدين من آسيا أو من بعض الدول العربية المصابة بعدم الاستقرار تجد البعض منهم طموحه متواضعا (يريدون الستر) ودوام العيش في هذا البلد، لذلك بعضهم يكتفى بالقليل، أما الدكاكين التي بدأت من تحت الأرض (في السراديب) ثم طفحت فوق الأرض وأصبحت أسماء رنانة وبأسعار تنافسية وتمددت خارج الحدود، فيعلم الجميع أن وراءها أحزابا ودولا تستغلها بتبيض الأموال وزرع أعوان لهم بصفة عمالة للمشروع التجاري، وهو في الواقع «حصان طروادة»، ونحن لا نزال في غفلتنا، أصبحنا في بلدنا «كفئران التجارب» يتعلمون بنا الصنعة، ونحن نتحمل أخطاءهم ونتكفل بخسائرها، وعندما يشتد عودهم رمونا وعادوا لديارهم حاملين معهم شهادات الخبرة والخير الوفير (وابني لا يعرف يستبدل لمبة).
خريجو جامعاتنا وكلياتنا كثر التراب وشهاداتهم تغطي عين الشمس، وحالنا لم يتغير ونستمر بحاجة للعمالة الفنية، حل كل هذه المشاكل هو «الدينار» اقلبوا المعادلة: الفني الذي يعمل بيده (من دون قلم وتوقيع) يضاعف له الراتب، أما من يعشق المكتب فهو حسبه، إلى متى هذا الحال، هل تريدون كارثة لتعرفوا أن شباب الكويت أهل لكل صنعة، وأنهم طاقة كامنة.
[email protected]