قليل من الناس يتركون بأعمالهم وأفعالهم وأخلاقهم إرثا كبيرا يكون تحمله شاقا على المقربين منهم ومن عايشوههم، فما بالك بأسرهم وهم أقرب الناس إليهم تحمله الوفاء به والمحافظة عليه، فأسأل الله لأم عبدالرحمن وأبنائها ان يعينهم الله على حمل هذه المسؤولية والحفاظ عليها وفاء لأخينا هشام، رحمة الله عليه، لما قدم من أعمال لخدمة الناس ابتغاء وجه الله، ونحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.
كان لزاما علي، وأنا من عايشه عن قرب لسنوات، ان أكون وفيا لهذا الرجل وأقدم جزءا من هذا الوفاء من خلال كلمة طيبة بحق هذا الإنسان الطبيب ورأيت أن أروي بعض المحطات التي توضح معدن هذا الرجل الذي أسأل الله أن يجزيه خير الجزاء على ما قدم من حب وجهد لأهل الكويت والمقيمين عليها.
المحطة الأولى: كان ذلك صيف عام 1970، عندما جاءني القبول للالتحاق بجامعة القاهرة. ويومها لم أكن قد زرت مصر في حياتي او أعرف أي شخص فيها غير ابن خالي، أطال الله في عمره، قنصل الكويت في القاهرة آنذاك، السفير عبدالرحمن أحمد البكر، فاتصلت به أسأله إن كان يعرف شخصا على خلق ودين لأسكن معه، فقال لما تصل الى القاهرة سأعرفك بالأخ هشام النصف، وهو من خيرة الشباب الكويتي في القاهرة.
وسبحان الله، تعرفت عليه، وكان فعلا شخصيته هادئة رزينة ذات خلق ودين، وتعززت العلاقات أثناء تواجدنا بالقاهرة على مر السنين، وكثيرا ما كنا نلتقي في شقة اخينا د.صالح الرومي بشارع القصر العيني.
وكانت المحطة الثانية معه عندما دعاني لأسكن معه مؤقتا في شقته بالمنيل، وكان ذلك صيف عام 1972 لمدة شهرين، وكانت فرصة تعرفت فيها على الأخ هشام عن قرب، كان سخيا كريما هادئ الطبع حتى في حديثه، قليل الكلام، فقد كان الأخ هشام ـ رحمه الله ـ يتميز بأنه يصمت كثيرا وأنت تتحدث، ويكون تعليقه مقتضبا، يفرض احترامه عليك، عشنا هذه الفترة تعرفنا فيها على بعض عن كثب، فترة لا أنساها في حياتي في الغربة، خاصة عندما تعيش مع أخ يرعاك ويحنو عليك ويخجلك بإنسانيته واحترامه.
لقد تعززت هذه الصفات الجميلة والأخلاق الإنسانية في واقعه العملي عندما عمل طبيب أنف وأذن وحنجرة في مستشفى الصباح، وكان حريصا على إعطائك حقك في الفحص كأنك واحد من أبنائه الصغار، حتى زاد الضغط عليه من معارفه وما تأتيه من توصيات كضريبة لإخلاصه في عمله وتفانيه وسمعته الطبية، لقد أمضى 40 عاما يعمل دون كلل أو ملل، رحمة الله عليه رحمة واسعة، لقد أبى رحمه الله إلا أن يكون في خدمة الناس مواطنين ومقيمين، وأبى ان يرتاح حتى وهو يعاني بعض المشاكل الصحية، إيمانا منه بأنه يحمل أمانة إنسانية لابد أن يتفانى بها حتى آخر لحظة من حياته، رحمه الله رحمة واسعة.
المحطة الثالثة كانت منذ شهرين عندما اتصلت به وإذ بي أفاجأ بأنه مسافر في تركيا ومع ذلك أبى إلا أن يرد على مكالمتي، وكان ردا مفعما بالمحبة، واستحييت أن أطلب منه شيئا، لكنه عرف مطلبي فبادرني سريعا قائلا: سأكون بالكويت الأسبوع القادم بإذن الله، وإذا احتجت شيئا اذهب الى فلان وقل له انك من طرفي، ولما رجع وكان يومها لديه اجتماعات قال اذهب الى المستشارة سأكلمها فقابلتني، المهم بعد اسبوعين من العلاج لم أخرج بنتيجة، فقلت له يا أبا عبدالرحمن عندي يقين ان يدك مبروكة، وطول حياتي وأنا أعالج عندك، وأشعر بحرصك واهتمامك ودقتك في الفحص، أرجوك ان تحدد لي موعدا لزيارتك، فابتسم كعادته دون نقاش وحدد لي موعدا ويشهد الله كما توقعت فقد شفيت تماما من المشكلة بفضل الله، ثم بمتابعته لحالتي.
هذا هو أخونا د.هشام في حبه لعمله وإخلاصه وتفانيه من أجل خدمة الناس. وهنا لا بد أن أشير الى هذه الخصلة الجميلة الرفيعة في اخونا د.هشام انه كان يرد على كل من يتصل به سواء من خلال الرسائل الهاتفية (المسجات) او تلفونيا، حتى وهو مسافر، وهذا نادر من تجربتي الطويلة تجدها موجودة، مع الأسف، مع الاخوة الأطباء الذين يتسمون بالأخلاق والتدين تجدهم هداهم الله لا يردون على المكالمات ولا على الرسائل الهاتفية وهم في الكويت، فما بالك وهم في سفر.
رحمة الله عليك يا أبا عبدالرحمن رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته وألهم أهلك وذويك الصبر والسلوان، عملة نادرة في هذا الزمن، عاش طيلة عمره لم يسع لمنصب او لفتح عيادة يتكسب منها كما فعل الآخرون، بل كرّس حياته وجهده طيلة 40 عاما لخدمة اهل الكويت والمقيمين على ارضها الطيبة دون تفريق.
هذا هو اخونا الأخ د.هشام النصف، الذي رحل الى ربه تاركا وراءه سمعة بناها على مدى 40 عاما، أسأل الله تعالى ان تكون شفيعة له يوم القيامة، لما قدمه من أعمال وخدمات جليلة لكل المرضى من المواطنين والوافدين دون تفريق.
وهنيئا لأم عبدالرحمن وأولادها بهذه التركة الطيبة التي أورثها لهم، وأعانهم الله على حملها، سائلين المولى عز وجل ان يلهمهم الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.