دخلت السفن الأربع المضيق والذي دعاه ماجلان «مضيق جميع القديسين»، نسبة إلى اليوم الذي تم فيه هذا العمل المجيد، لكن الأجيال التالية المعترفة بالجميل أسمته «مضيق ماجلان» إنه لمنظر عجيب عندما تقدمت السفن ذلك الخليج الموحش، حيث لم يدخل رجل من قبل وكانت صفحة قاتمة تنعكس عليها سماء أشد قتامة، ولا بد أن يكون هناك بشر يسكنون تلك المناطق، لأن نيراناً تتراءى في الظلام وأطلق البحارة على هذا المكان اسم «أرض النار» والطريق لا تزال غامضة.
هذا المضيق عبارة عن سلسلة متصلة من الشقوق وسراديب من الخلجان والقنوات لا يسهل اجتيازها إلا بالتغلب على صعاب عدة والاستعانة بخبرة طويلة في الملّاحة والطريق لا تزال غامضة ولكن جميع الدلائل تشير إلى أن هذا الطريق ستؤدي في النهاية إلى البحر والسفن تمخر عباب المضيق في ذلك الظلام المخيف، يواكبها هزيم الرياح المنبعثة من الجبال.
اجتازت السفن المضايق الأولى ثم التالية من دون حادث وتحدد لقاء السفن الأربع عند مصب نهر صغير، أطلق البحارة عليه «بحر السردين» لكثرة الأسماك فيه، وهنا دعا ماجلان ربابنة السفن ليعرف رأيهم عن حالة التموين الغذائي، وتحدث ماجلان: لقد بلغت السفن الهدف الأول من رحلتها المؤدية إلى بحر الجنوب، فهل يكتفي ماجلان بهذا الفوز أم يواصل إنجاز كل ما وعد به الإمبراطور الإسباني فيبلغ جزر التوابل ويستولي عليها باسم إسبانيا؟ معظم الربابنة لاذ بالصمت، لكن واحدا منهم وهو ربان السفينة «سان أنطونيو» وهو برتغالي الأصل، قال: ما دامت الدلائل تشير إلى أنهم اكتشفوا الممر المنشود، فخير لهم أن يعودوا إلى إسبانيا ثم يستأنفوا الرحلة إلى الجزر بسفن جديدة، فهو يرى أن سفن القافلة لم تعد صالحة لمواصلة السفر ولم يعد المخزون الغذائي كافيا.
وتكلم ماجلان ليرد على قائد سفينة «سان أنطونيو» إن الحياة فانية ويبقى العمل خالدا، وقال ماجلان إن هناك صعوبات كبيرة يجب قهرها ويقاسي البحارة الجوع، لكنه يرى مواصلة السير وبلوغ البلاد التي وعد الإمبراطور الإسباني أن يفتحها باسمه حتى لو اضطر البحارة إلى أن يأكلوا الجلود التي تكسو عوارض الصواري في سفنهم، وانتهت المناقشة بالدعوة إلى استئناف المغامرة، وأمر ماجلان ربابنة السفن بأن يخفوا عن البحارة ما آلت إليه حالة التموين كيلا يدفع حياته ثمنا لها.
واستأنفت المغامرة والمسير في الممر المائي، لكن اختفت السفينة «سان أنطونيو» وقد يكون قائدها عاد إلى إسبانيا وانفصل بالسفينة عن القافلة.
أمر ماجلان بالاستمرار بالمسير في الممر المائي بثلاث سفن، سفينة القيادة «ترينيداد» وفكتوريا وكونسبسيون، بدأت تظهر المروج الخضراء والغابات على جوانب الممر المائي لتحل محل الصخور الجرداء وظهرت عيون مياه عذبة طار لها البحارة فرحا لأنهم لم يذوقوا منذ أسابيع غير مياه البراميل الكريهة، إنهم يستلقون بالليل على العشب الأخضر ويشاهدون ويصطادون الأسماك من خلال شباكهم ويجدون في ذلك المكان من المواد الغذائية والطبيعة حولهم جميلة، وهنا بدأت السعادة تغمر نفس ماجلان، وفي النهاية وجدوا مخرج القناة ورأوا بأعينهم البحر الذي ينفذ إليه بحر الجنوب المحيط العظيم المجهول، وانطلقت الحناجر بكلمة «تالاسا.. تالاسا»، ومعناها البحر البحر، إن هذه اللحظة لأعظم لحظة مر بها ماجلان، لقد تحقق حلم ماجلان وبر بالوعد الذي قطعه للإمبراطور الإسباني وجعل ماجلان هذا الحلم إلى حقيقة ملموسة، لقد وجد الطريق المؤدي إلى البحر، لقد انتصر ماجلان على كل الصعاب بسبب ثباته وقوة عزيمته ورباطة جأشه، وغلب التأثر هذا الرجل الحديدي فقد خنقته العبرات وبدأت عيناه تترقرق منهما الدموع الحارة وتنهمر على خديه وتتخلل لحيته الكثيفة، إن أمير البحر ماجلان يبكي من الفرح.
[email protected]