في أحد أيام صيف عام 2006 ورد اليّ اتصال هاتفي من أحد الوزراء، بعد أن كنت قد اتصلت عليه 17 ألف مرة صباح ذلك اليوم، لأستفسر عن قضية مثارة في وزارته أيامها، وكنت في طريقي إلى المنزل عائدا من الجمعية التعاونية، ولم أكن أبدا في مزاج يسمح لي أن استوعب ربع ولا حتى ثمن ما كان يقوله الوزير في معرض تعليقه على تلك القضية المثارة، وبدأ يتحدث عن الإصلاحات التي سيجريها في وزارته «الكسيفة» بينما أنا كنت أفكر بكرتونتي الدجاج اللتين اشتريتهما للتو، وبدأ خلال المكالمة يبرر لي قراراته الأخيرة التي كان قد اتخذها في وزارته، رغم أنني لست الشخص المعني بأن يقدم أمامه تلك التبريرات، والتي كان الأجدر به أن يضعها أمام رئيس مجلس الوزراء لا إلى صحافي يبحث عن خبر في كومة تبريرات «وزارية» لا تصلح سوى للاستهلاك «الدواويني»، استمر في الحديث لمدة ربع ساعة يطرح ويجمع ويتحدث ويتحسر و«يتحلطم»، بينما أنا كنت ألعب دور المستمع فقط، فمن أنا لأعلق على معاليه، ولا أنكر أنني للحظة تصورت نفسي رئيسا لمجلس الوزراء خاصة أن الوزير أسهب في تبريراته أمامي، تماما كما لو أنه يتحدث أمام رئيس مجلس الوزراء.
تذكرت ذلك الاتصال بعد أن دخلت ذات الوزارة قبل أسبوعين، أي بعد 4 سنوات من تلك المكالمة التي لم أفهم منها شيئا يصلح لأن يكون خبرا أعطيه لصحيفتي، ووجدت أن كل ما اشتكى منه الوزير يومها لايزال قائما وموجودا وحاضرا، بل إن الفساد الذي كان «يتحلطم» منه الوزير أصبح أكبر من قبل 4 سنوات.
رحل الوزير وجاء آخر ثم آخر ثم آخر، والفساد يكبر ويكبر وينمو، وكأنه لا حل لوحش الفساد الذي تتمدد أطرافه كل يوم وكأن هناك من يغذيه، بل ويعمل على تنميته وتربيته في البلد.
الفساد ليس مخيفا، ويمكن القضاء عليه، ولكن المخيف فعلا هو إيمان البعض بأن الفساد والاختلاسات أصبحت نوعا من أنواع الشطارة، وهذا الإيمان لا يسري في نفوس بعض القياديين بل تسرب حتى إلى نفوس المواطنين العاديين، وأتذكر أنني سألت قريب أحد القياديين عن أحوال قريبه بعد أن تبوأ منصبا حساسا في وزارة خدمات فقال لي دون تردد: «أبشرك صار مليونيرا»، كم أخافني رده، فهو بهذا لا يوافق ضمنيا على سرقة ابن عمه فقط وأنه أصبح مليونيرا بعد أن «لط» مناقصات الوزارة، بل هو يشجع فعلة ابن عمه، ويراها أمرا مباحا، بل مستحب.
لحظتها تمنيت أن يعود الزمن إلى الوراء، وتحديدا إلى ذات اللحظة التي أحسست فيها أنني رئيسا لمجلس الوزراء خلال حديث الوزير معي في عام 2006، هل تعلمون أي قرار كنت سأتخذ؟
قطع يد السارق دون أدنى تردد، لنوقف مد السرقة ومعها نوقف مد المعجبين باللصوص الذين انتشرت بينهم ثقافة «أبشرك صار مليونيرا»، فالبلد لم يعد يحتمل سرقة أخرى ولا قياديا آخر يأتي ليضع نصب عينيه «اللط» من أموالنا.
[email protected]