ذعار الرشيدي
في عام 1978 كان كل شيء هادئا، الشوارع كانت أقل ازدحاما من اليوم وأكثر تنظيما، والناس كانت أقل تعطشا للغضب، وأكثر انفتاحا نحو الآخر، وكان الحال كذلك في حقبة الستينيات كما أخبرني والدي، وفي الثمانينيات لم يتغير الأمر كثيرا وكان الجميع يتعامل وفق مبدأ السهل الممتنع فلا تعقيدات ولا «شربكاة» فلاسفة ساسة اليوم، كانت البساطة هي الخط العام المميز للكويت والكويتيين.
عشت جزءا من طفولتي في سوق الأوراق المالية القديم عندما كان يصطحبني والدي إليه في الثمانينيات قبل السقوط الكبير لما عرف لاحقا بأزمة المناخ، الأزمة التي يعتقد كثيرون اليوم أنها قريبة جدا بمناخ جديد وأباطرة جدد، وإن كانت السابقة قد ضربت الوسط الاقتصادي بهزة مقدارها 7 درجات على مقياس «ريخترنا» فالأزمة القادمة لن تقل بأي حال من الأحوال عن 9 درجات وستكون مدمرة بشكل لن تنفع معه 10 شركات مقاصة و50 قانونا اقتصاديا تجاريا ترقيعيا.
وأتذكر أن والدي وقبل السقوط الكبير بأشهر قام بتسييل جميع أسهمه وخرج من السوق وقال لي «ما يحدث غير منطقي، الناس تبيع وتشتري ورق»، ورغم أنه يومها كان من صغار المستثمرين إلا أنه صدق، وانكشفت الكذبة فالقصة كانت ولم تزل ورقا في ورق.
قضيت جزءا من مراهقتي بين المسرح والحفلات الغنائية، حضرت مسرحية فرحة أمة وأتذكر أن المسرح كان أكثر رقيا في كل شيء، كما أتذكر حضور حفلات فيروز في عام 1988 وأبوبكر سالم في ذات العام في مسرح سينما الأندلس، أيامها لم نكن نسمع عما يسمى بضوابط الحفلات وهو الاختراع الذي ولد نهاية التسعينيات، وأعتقد أن الجيل الذي انتمي إليه لحق على آخر أنفاق الحرية، ورغم عدم وجود لجنة ظواهر سلبية ولا ضوابط الحفلات لم نسمع يوما عن جرعات زائدة تطيح بالشباب وتحصد أرواحهم على مسمع ومرأى من أعضاء مجلس الأمة الموقر الذين يعتقدون أن الخمسين دينارا أهم بكثير من قوة بشرية تتساقط تحت دك المخدرات، وكنا نقضي الشهر والشهرين نتصفح الصحف ولم نقرأ كما نقرأ اليوم عن شاب أو شابين بل وثلاثة سقطوا في أسبوع واحد جراء جرعة زائدة من المخدرات وهناك 50 عضو مجلس أمة يصقلون سيوفهم من أجل 5 أو 10 دنانير اختلفوا حولها مع الحكومة، شاب يموت لا يهم، بل حتى لو مات في عام واحد 30 شابا فلا يهم لأنهم بأي حال من الأحوال لن يصوتوا لهم كونهم سقطوا من كشوف أسماء الناخبين بسبب وفاتهم، رحمهم الله ورحم الله بلدنا الذي تغيرت أولويات ساسته الذين يجرون وراء القشور متناسين أن اللب يتآكل.
لم نسمع عن منع الاختلاط لا في الجامعة ولا في غيرها، ومع ذلك كانت الكويت يومها منارة في كل شيء وكانت الجريمة الأخلاقية في أدنى مستوياتها مقارنة باليوم (ومن لا يصدقني عليه بالعودة إلى أرشيف الصحافة في ذلك الوقت).
حتى الدعاة والنشطاء الإسلاميون كانوا أكثر انفتاحا، وكانوا مثقفين ويجيدون تثقيف الآخر عبر خطبهم ودروسهم، وحتى عندما كنا نلاحق بأعيننا المتعطشة للمعرفة معارك الليبراليين والإسلاميين كنا نجد رقيا في الخطاب، ولم يتدن مستوى الحوار يوما، لأن الجميع كانوا يحاربون في سبيل الكويت كل بحسب وجهة نظره، على عكس اليوم، إذ يتقاتل غالبية المتورطين بالسياسة، ليبراليين وإسلاميين وقبليين من أجل مصالح شخصية ضيقة فانحدرت مستويات الحوار السياسي إلى أدنى الدرجات.
يومها وتحديدا قبل عام 1986 عندما حل مجلس 85، كانت هناك معارضة وطنية حقيقية أيا كان خطها ونوعها وتوجهها، على الأقل كان هناك اتفاق على مجموعة من النواب أنهم يمثلون المعارضة الوطنية، أما اليوم فأتحدى أن تجد إجماعا على أحد بعد أن ضاعت «الطاسة».