أعتقد أنني في مراهقتي كغيري من جيل الثمانينيات كنا جدا محظوظين اذ قدر لنا ان نطالع ونقرأ ونطلع على روائع الأدب العالمي ونقتني منها الشيء الكثير ونحفظها ونتأثر بها، قبل ثورة البنتيوم ون والإنترنت وقبل ان يأتي العبقري ستيف جوبز بالهواتف الذكية والأجهزة اللوحية ويقلب عالمنا «فوق تحت».
مما قرأت واقتنيت مراهقا كانت رواية بين مدينتين للروائي الانجليزي الأكثر شهرة تشالز ديكنز، ورغم عدم معرفتي أيامها بحقيقة الثورة الفرنسية ولا الصراع بين بريطانيا وفرنسا خلال تلك الفترة او حتى عدم فهمي لطبيعة الجغرافيا العسكرية التي تناولتها اجزاء من الرواية في أحداثها الا ان ذلك لم يمنعني من ان افهم السياق العام الذي بني على قصة الخير والشر والتضحية بحبكة درامية تأسست على الشبه الشكلي الكبير بين الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية وهما مهاجر فرنسي متهم بالخيانة ظلما ومحاميه الذي حضر ليدافع عنه، لا أتذكر التفاصيل كثيرا، ولكن حكاية «بين مدينتين» تشبه ولو بمقاربة اسمية حالتنا الديموقراطية «بين مجلسين»، واعني مجلسي 2013 و2016، الأول كان حكوميا اكثر من الحكومة نفسها منذ اليوم الأول لولادته، ولد حكوميا واستمر حكوميا لثلاث سنوات كاملة وانتهى حكوميا بالحل الدستوري، وأما مجلسنا الحالي الذي يحمل اصطلاحا اسم مجلس 2016 فقد ولد وبداخله ثورة معارضة كما بدأ من نتائجه، واستمر معارضا حتى آخر يوم في شهر يناير الماضي وهو يوم استجواب وزير الإعلام ووزير الدولة لشؤون الشباب الشيخ سلمان الحمود، كان المجلس ولمدة ثلاثة أشهر معارضا شرسا عنيفا، ولكن مع دخول شهر فبراير وانتهاء الاستجواب الأول في حياته انتهت معارضته، وتحول فجأة الى مجلس مهادن طيب حبّوب «ما يخالف» و«لا يؤذي»، كان الاعتقاد لدى اغلب المحللين السياسيين ان تلك كانت استراحة محارب فيما رأى البعض ان الهدوء سببه صفقة لإعادة الجناسي، والحقيقة انني كتبت قبل الاستجواب وأثناءه وبعده ان المجلس هو مجلس يضم حالات استعراض لبعض المعارضين وستنتهي بالتحديد، المهم انه ومنذ فبراير وحتى اليوم وها نحن ندخل الشهر السابع من حالة التهدئة النيابية ثبت شرعا ومنطقا ان المجلس ليس بأكثر من مجلس حكومي مغلف بتصريحات معارضة، مجلس للتنفيس السياسي الكلامي وليس مجلس أفعال حقيقية لا رقابية ولا تشريعية، ألم يفشل في ان يجبر الحكومة على قانون تقاعد العسكريين والذي ردته الحكومة دون ان تسأل عن المجلس او تلتفت إليه او حتى تعمل له حسابا، هذا لا يعني ان الحكومة سيئة بل يعني ان المجلس اقل بكثير من ان يفرض ما يشرع، مثال قادم سأستبق به الأحداث، الحكومة اقرت تطبيق ضريبة القيمة المضافة وهو لن يدخل حيز التنفيذ الا بعد عرضه على مجلس الأمة وإقراره بالأغلبية النيابية، والحكومة ستقدمه وسيمر وسيوافق عليه المجلس رغم ما ترون اليوم من اعتراضات واستعراضات لنواب يرفضون قانون ضريبة القيمة المضافة.
هذا المجلس ظاهره المعارضة وباطنه حكومي حتى النخاع.
رحيل هذا المجلس سيكون مرحبا به كرحيل أخيه غير الشقيق 2013.
[email protected]