إعداد: أحمد صبري
قبيل فجر الاثنين الواقع في الحادي والثلاثين من شهر مايو سنة 2010، خلد أكثر من650 مشاركا على متن «أسطول الحرية» إلى النوم، أرادوا أن يكونوا في كامل لياقتهم الجسدية قبيل الوصول إلى شواطئ غزة، ناموا وهم يحلمون بلحظة الوصول وحلاوة الاستقبال في القطاع المحاصر، حيث الصيحات والأغنيات والزغاريد، وسعادة الاطفال، حين يشعرون بأنهم ليسوا وحيدين على هذه البقعة من الأرض.
نام المتضامنون «العزل» ولم يدر بخلدهم للحظة واحدة ان إسرائيل دولة الجرائم الحربية، ستكون بهذه الهمجية.. ناموا وهم يحلمون بالغناء والرقص مع اطفال ممنوع عليهم الفرحة.. كانوا يرون أنفسهم رسل الإنسانية، وكانوا يفترضون البحر مشاعا مفتوحا ولا توجد فيه اثار للمجرمين.
ناموا.. وفي الساعة الخامسة إلا الربع دخلت الى احلامهم وقبل اول شعاع للنور أصوات لم يتوقعوها.. أصوات صواريخ وقذائف مدفعية ورصاص رشاشات ليستيقظوا في فزع على هدير الطائرات المروحية فوق رؤوسهم.. انتبهوا في صدمة غير مصدقين لما يروه ويسمعوه وكأنهم في حرب عسكرية مقيتة ألقوا فيها وهم عزل من السلاح، شاهدوا صفحة البحر وهي ممتلئة بأكثر من 19 شهيدا منهم و50 مصابا.. ولعب أطفال ومعلبات قد تسد، ولو لأيام، جوع المحاصرين تحت ركام منازلهم المهدمة بالصواريخ الإسرائيلية، وطحين لبعض الخبز للمليون ونصف المليون من الذين يمنع أهلهم الرغيف عنهم بالتواطؤ مع عدوهم.
لحظات لن تنسى
في الساعة الخامسة الا الربع كتب على المتضامنين في اسطول الحرية العزل ان يشاهدوا الإنزال الإسرائيلي الذي عمد بداية إلى السيطرة على قمرة القيادة في جميع السفن، مع التركيز على سفينة «مرمرة» التركية، مؤكدين في رواياتهم قبل ان يقطع الاتصال أن «لحظة الهجوم الحقير، لم يكن هناك أي تحذير من الإسرائيليين».
وفي هذه اللحظات رأى العالم كله عن طريق الصور المباشرة التي بثت على وسائل الإعلام جنود الاحتلال الغاشم البحرية وهي تقتحم السفن على نحو مفاجئ في عملية إنزال جوي، بعد ساعات من مرافقتها بحرا وجوا ومحاصرتها. ومع بزوغ الفجر، هاجم الجنود الإسرائيليون السفن بإطلاق الرصاص الحي وقنابل الغاز.
ومن داخل إحدى السفن، أعلن مراسل قناة «الجزيرة»، عباس ناصر، أن مئات الجنود الإسرائيليين المدعومين من الجو، هاجموا سفن الأسطول في وقت واحد واستخدموا الرصاص والغازات.
ولكن قبل اشراق نور الصباح يا عباس، اطل الموت في الظلام.. ولطالما كان الليل الاسود حليف الاغتيال الإسرائيلي الغاشم، حيث وجه قتلة الجيش الإسرائيلي المختفين خلف الاقنعة، لانهم يعرفون انهم يرتكبون جريمة ضد الإنسانية، صواريخهم الى السفن المثقلة بتبرعات احرار الشعوب المتعددي الجنسيات والأديان، قتلوا جوع الالاف في غزة مع سقوط القمح وأكياس الطحين والمأكولات المعلبة في البحر..ونثروا حليب الأطفال للأسماك..وسفكوا دماء الذين دفعتهم إنسانيتهم الى مواجهة الوحش..واعتقلوا عواطف الصداقة والتعاطف باعتبارها خطرا مصيريا على الكيان الغاشم، القائم على الخيانة والقتل والاغتيال واحتجاز حركة الهواء وكراهية الزيتون وأصوات الاطفال.
وكما هي الحال في أعقاب كل المجازر التي ارتكبتها في تاريخها، بدأت إسرائيل حملتها السياسية والإعلامية التي ترتكز على مبدأين أساسيين: تحميل المسؤولية للضحايا الابرياء التي تسقط بنيران جيشها، والترويج إعلاميا أنها كانت في حالة الدفاع عن نفسها.
«أسطول الكراهية والعنف يدعم منظمة حماس الإرهابية، وهو يمثل استفزازا فظيعا لإسرائيل»... «المنظمون معروفون بارتباطهم بالجهاد العالمي والقاعدة وحماس. لديهم تاريخ في تهريب الأسلحة والإرهاب القاتل».. «على متن السفينة وجدنا أسلحة أعدت مسبقا واستخدمت ضد قواتنا. المنظمون كانت نيتهم عنيفة، ووسائلهم عنيفة، والنتيجة جاءت مع الأسف عنيفة».
هذه مقتطفات من تعليقات لداني أيالون، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، إثر الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية المتجه إلى غزة.
أما وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، فأسف للخسائر في الأرواح، لكنه أضاف إن الأسطول كان استفزازا مدعوما من متطرفين يدعمون منظمة إرهابية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أسف لسقوط قتلى، لكنه أكد أن الجنود الإسرائيليين «اضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم»، مضيفا ان الناشطين على متن السفن «تعمدوا مهاجمة الجنود، وتعرض هؤلاء للضرب بالعصي وطعنوا بالسكاكين، حتى إن البعض أطلق عيارات نارية، واضطر جنودنا إلى الدفاع عن أنفسهم حماية لحياتهم».
إذن، تفاوتت المفردات التي استخدمها المسؤولون الإسرائيليون في وصفهم لطاقم السفينة. لكنهم أجمعوا على اعتبار الركاب إرهابيين، أو متعاونين مع الإرهاب، أو مؤيدين له، وهذا ليس مصادفة!! فحين يأسف المسؤولون الإسرائيليون، ويضيفون إلى أسفهم عبارة تبدأ بـ «ولكن.»، إنما يحاولون تذكير العالم بأن الذين أريقت دماؤهم ليسوا بشرا تماما، إنهم من أولئك الصنف الذي اعتادت إسرائيل (والمجتمع الدولي) وصفه بالإرهابي، لكونه لا يؤمن بالقيم «البيضاء» نفسها، ولنتذكر أن الجريمة لا تكون جريمة حقا، ما لم ترتكب ضد «شريك في الإنسانية».
ولكن هذه المرة أجمع المجتمع الدولي بأكمله أن إسرائيل عجزت عن تسويق رواية الدفاع عن النفس كمبرر للسيطرة الدموية على سفن «أسطول الحرية»، وعجزت أكثر عن تبرير دمويتها في استهداف العزل.. وبدلا من محاولة تقليص الأضرار بالإقرار في الخطأ، اندفعت إلى تبرير «الإفراط» في استخدام القوة، ووجدت نفسها في مواجهة مع الأسرة الدولية بأسرها.
فقد هاجمت بقوة وحشية أذهلت أغلب العالم، مدنيين في سفينتهم في عرض البحر وفي مياه دولية مدعية أنها تعرضت لكمين، وبعدما قتلت من قتلت وجرحت من جرحت تحججت بأنها من تعرض للاعتداء! وعندما لم تجد من يشتري الرواية سارعت إلى الاندفاع أكثر في الأكاذيب وتحدثت عن أسلحة كانت ستصل للقطاع وعن انتماء النشطاء الأتراك للقاعدة أو لحماس، وبدت أنها تغرق أكثر فأكثر في الكذبة!
الربح والخسارة
ورغم أن نتنياهو في البداية حاول الإيحاء بأن الوضع تحت السيطرة إلا أنه اضطر لإلغاء زيارته لواشنطن ولقائه مع الرئيس أوباما.. وبحساب الربح والخسارة، فإن إسرائيل ترى في عملية السيطرة على أسطول الحرية فشلا ذريعا، من جانب أميركا أو وتركيا التي تعتقد انها باتت «خسارة لا تعوض»، لان مابين تركيا واسرائيل منذ فجر الاثنين الاسود أشبه بحالة حرب غير معلنة.. تركيا تستدعي سفيرها من تل ابيب وتلوح بقطع العلاقات الديبلوماسية.. الاتراك ينزلون الى الشارع الغاضب والضاغط على الحكومة لاتخاذ قرار متقدم.. اسرائيل تنصح رعاياها في تركيا بالمغادرة و15 الف اسرائيلي يلغون حجوزاتهم للسفر الى انقرة باعتبار ان تركيا اصبحت بلدا خطرا.. وأردوغان رفع القضية الى حلف شمال الاطلسي ومجلس الامن الذي انعقد في جلسة طارئة بطلب من لبنان وتركيا ورغم ان ممثلي النظام العربي كانوا موجودين.. لكن المندوب الإسرائيلي كان موجودا ايضا ليقول علنا وبكل تبجح ان حصار غزة معترف به وفق القانون الدولي.. وان جنود كيانه الصهيوني قد ضبطوا في بواخر النجدة الاممية اكثر من سكين مطبخ، وخمس عصي، وبعض الحبال المستخدمة في حزم صناديق المعلبات.. ياللهول خمس عصي.
واضاف المندوب الإسرائيلي ان «دولته تنفذ القرار الدولي 1860... وانها لا تسمح بتهديد أمنها»، ثم رفعت الجلسة.
لا لمبادرة السلام
اما خسارة اسرائيل لواشنطن ولو مؤقتا فتتمثل في انه من المتوقع أن تؤدي الادانة العالمية للهجوم الاسرائيلي إلى تعقيد جهود واشنطن، لتحسين علاقاتها المتوترة مع إسرائيل، وقد تصرف الانظار عن الضغط باتجاه فرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي.
لذا فان توقيت الحادث الجريمة «سيئ» بالنسبة لاسرائيل والولايات المتحدة على السواء، فقد كان من المقرر أن يلتقي اوباما مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن في اطار جهود تحسين العلاقات، كما كان من المقرر أن تبدأ الامم المتحدة المناقشات النهائية حول العقوبات الاضافية المقترحة ضد إيران في الاسابيع المقبلة.
وقد الغيت مباحثات أوباما ونتنياهو وكانت تصرفات إسرائيل محور جلسة طارئة لمجلس الامن الاثنين، وتواجه الادارة الأميركية عملية توازن صعبة في الوقت الذي تزداد فيه عزلة اسرائيل الديبلوماسية عمقا.
ولكن على الرغم من ذلك، نجد انه على النقيض من البيانات القوية الصادرة عن المسؤولين في الدول الاوروبية والعربية والامم المتحدة والمظاهرات التي شهدتها عواصم العالم من أثينا إلى بغداد تمثل رد فعل البيت الابيض في مجرد القول بأن أوباما أجرى حديثا هاتفيا مع نتنياهو أعرب فيه الأخير عن «اسفه العميق لوقوع خسائر في الارواح» وعن «أهمية معرفة كافة الحقائق والظروف التي احاطت بأحداث الاثنين المأساوية».
بكل وضوح، قالتها الكويت يوم الثلاثاء مباشرة وانسحبت من مبادرة السلام العربية تجاه اسرائيل..وهذا اقل شيء يمكن ان تفعله الدول العربية لان ما فعلته اسرائيل يؤكد ان بينها وبين السلام قرونا وقرونا.. لقد أظهرت مجزرة «مرمرة» مستوى الحماقة الذي يمكن أن تقدم عليه حكومة يرأسها نتنياهو ويقودها في غيابه موشي يعلون وإيهود باراك، وتزداد الحماقة حدة حين يكون مطلوبا من أفيغدور ليبرمان وداني أيالون تفسير كل ما جرى.
ما هو أسطول الحرية؟
«أسطول الحرية» الذي دخل التاريخ من الباب العريض هو أسطول متعدد الجنسيات يتألف من 6 سفن أكبرها «سفينة مرمرة» التركية التي تقلّ نحو 600 شخص نصفهم من الجنسية التركية، إضافة إلى جنسيات لبنانية وأردنية وكويتية ومصرية ويمنية ومغربية وجزائرية، وطواقم إعلامية عربية وأوروبية، وممثلين عن منظمات ناشطة في مجال حقوق الانسان ونواب ورجال دين.
ويحمل هذا «الأسطول» نحو عشرة آلاف طن من المساعدات الإنسانية المتنوعة، وهدف المنظمون لهذه الرحلة الى كسر الحصار المفروض على غزة.
وهذه أول مرة تنقل السفن مساعدات كبيرة الى غزة ويكون للأسطول بعد دولي.
ولأن الأمر كذلك فإن الحكومة الإسرائيلية المصغرة اتخذت قرارا منذ أسبوع بمنع «أسطول الحرية» من الوصول إلى شواطئ غزة واستخدام القوة لمنعه إذا لم يعد أدراجه.