حينما تقف مواكب التاريخ تتأمل عظمة انسان، وتتملى سؤدده ومجادته، فإنها تقف وتطيل الوقوف امام هذا البطل العظيم، لأن جوانب العظمة فيه تحتاج الى تدبر وامعان، فهو اينما حدقت بفكرك في آفاق حياته تجدها آفاقا تتجاوز تخوم الانسانية، حتى ان المتأمل الفاحص ليستظهر فيها من المعاني ما تدركه اجنحة الخيال المحلق، وحسبه عراقة في الاصل ان اباه هو الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وان امه هي اسماء بنت ابي بكر الصديق، وان خالته هي عائشة ام المؤمنين.
نشأ عروة بن الزبير بن العوام واخوته الستة نشأة مباركة زكية، يترددون آنا على بيت خالتهم عائشة ويستمعون ويعون من علوم الدين ما تتسع له قلوبهم الشريفة وصدورهم النظيفة، حتى صار كل منهم خزانة علم ومعرفة، يؤمهم من يجد في صدره حاجة لفهم ما اشكل فهمه واعضل تفسيره واستغلق تأويله من امور الدين.
وكان عروة فقيها، عالما حافظا، حجة، عالما باليسير، كثير الحديث، كما كان من فقهاء المدينة المعدودين، وهو اول من صنف المغازي، ولم يدخل في شيء من الفتن، اذ كان متجها بكليته الى العلم والعبادة، يحيل القرآن والسنة الى سلوك عملي وتطبيق واقعي، فهو يقرأ كل يوم ربع القرآن في المصحف ويقوم به في الليل، على هذا يمكن ان نقول انه كان يقرأ القرآن مرتين كل اربعة ايام، مرة في المصحف ومرة في الصلاة، وقد انار القرآن بصيرته واضاء سريرته، وصقل قلبه وجلا عقله، وألهم ذهنه، فكان في العلم كالكوكب الدري، يهدي سناه الحائرين ويرشد ضؤه السائرين، وكان اذا جلس بجوار الكعبة اجتمع اليه الناس، واحاطوه بأسئلتهم، وهو يجيبهم في رزانة وتثبت واناة مثله في ذلك مثل الساقي الذي يطوف على الهيم الظماء بالماء العذب فيروي ظمأهم ويقدم اليهم اعلى ما يطمعون اليه.
البذل والعطاء
وهكذا كان عروة بن الزبير في مجلس علمه يبسط مائدة المعرفة لمن يريد ان يتضلع، ويقدم اطايب العلوم لمن يريد ان يتزود، ويرتقي بعقل الانسان الى درج الوعي والفهم والادراك السليم، اما عن جوده وسخائه ومعروفه فقد كان معطاء يبذل كل ما في يده ويعطي كل ما يملك ويستصغر العطاء، وتفيض عيناه بالبر ويتهمها بالجدب، وكان له بستان حافل بأشجار النخيل، اذا جاء موسم الرطب يفتح ثغره من سوره ليدخل منها الناس ويأخذوا ما شاءوا من الرطب الجنى ويحملوا اولادهم ايضا، وكان السرور يتلألأ في محياه وهو يرى الناس في بستانه يأكلون وينعمون، وكان عروة بن الزبير كلما دخل بستانه يقرأ الآية الكريمة (ولولا اذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله). وكما يمتحن الله عباده ليمحص الصابر من الجازع، فقد امتحن عبده عروة بن الزبير في نفسه وولده، وحصل ابن الزبير على اعلى الدرجات عند الله، واخذ شهادة مزهوا فخورا بها، لأنها تعبر عن ايمان راسخ وعقيدة ثابتة، فتعالوا نستعرض معا هذه الواقعة، لندخل في خشوع واجلال الى هذه النفسية المطمئنة بربها، والى هذا المؤمن الصابر الشاكر الذي استغرقه حب الله، حتى انه كان اذا دخل في الصلاة يذوب وجدا في الله وينسى كل شيء حوله، بل لا يحس بأي ألم في جسده. فقد خرج يوما في طريقه من المدينة الى دمشق لزيارة الوليد بن عبدالملك خليفة المسلمين، وكان برفقته ابنه محمد، وفي هذا الطريق اصيب بداء الاكلة في رجله وهو داء اذا اصاب عضوا في الجسد يظل يتآكل ولا علاج له الا البتر، وقد استغرقت الرحلة بضعة ايام كان الداء خلالها قد تمكن من رجله واستشرى فيها وتفاقم أمره، واستولى على نصف ساقه، ولما بلغ دار الخلافة في دمشق ودخل على الوليد بن عبدالملك جمع له الوليد الاطباء المتخصصين في علاج هذا الداء، لكنهم اجمعوا على قطع الساق فورا.
وعلم عروة بن الزبير بما اجمع عليه الاطباء، فلم يبد الجزع، ولا الحزن، وواجه المحنة بنفس راضية وقلب صبور، وعندما اخذوه لبتر ساقه قالوا له: الا نسقيك مرقدا (شرابا اشبه بالمخدر) حتى يغيب عقلك، فلا تحس بالالم ونحن ننشر ساقك بالمنشار، فابتسم عروة ابتسامة عريضة تعبر عن صدق ايمانه وثباته امام ضربات القدر، وقال لهم: لا، ما ظننت ان احدا يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل، لكن ان كنتم لابد فاعلين فافعلوا ذلك وانا في الصلاة، فإني لا احس بذلك ولا اشعر به.
وما ان قام الى الصلاة واستغرق فيها كدأبه حتى نشر الاطباء ساقه فلم يتألم ولم يختلج، ولم يتحرك عضو من اعضائه، ثم امسك بعد الصلاة بالساق المبتورة وقلبها بين يديه وقال: اللهم انك تعلم اني لم امش بها الى سوء او الى معصية قط.
قوة الإيمان
وحدث في تلك الليلة التي قطعت فيها ساقه ان دخل ابنه حظيرة الدواب فرفسته فرس فمات في الحال، واجتمعت على عروة مصيبتان في ليلة واحدة، بتر ساقه وموت احب اولاده اليه، فكيف استقبل المصيبتين وواجه المحنتين؟ وبماذا خرج من امتحان الله له في نفسه وولده؟ كان في ايمانه وصبره كالطود الشامخ العظيم لا تحركه الرياح ولا تهزه الاعاصير ولا تؤثر فيه الانواء، فقد جاءه الوليد بن عبدالملك يعزيه في رجله وفي ابنه الذي قتل برفسة فرس، فقال عروة: اللهم لك الحمد كان لي اطراف اربعة فأخذت واحدا وابقيت ثلاثة، وكان لي بنون سبعة، فأخذت واحدا وابقيت ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد اخذت فلطالما اعطيت، فلك الحمد يا رب. ولقد عاش عروة بن الزبير احدى وسبعين سنة حمل خلالها لواء العلم وجسد مبادئ الاسلام في سلوكه النوراني، فقد ولد في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة وتوفي في السنة الرابعة والتسعين.