- نحتاج إلى إنصاف العلماء والدعاة والقائمين على المؤسسات الخيرية الذين يعملون لوجه الله ولا يتقاضون ديناراً واحداً على التموين شهرياً
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فما من خلق فضيل إلا وأتى الإسلام يدعو إليه ويقوّمه ويرتب عليه الأجر والثواب، فالأخلاق الفاضلة من أنجع الأسباب للدعوة إلى الله، ومن هذه الأخلاق التي اندثرت في أيامنا هذه خلق «الإنصاف»، الإنصاف مع من نحب ومع من نكره، مع العدو والصديق، في الرضا والغضب، هذا ما أشار إليه الإمام والخطيب في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الداعية عبدالعزيز الفضلي. «الأنباء» التقت الفضلي ليحدثها عن صور وتطبيقات هذا الخلق الرفيع، الإنصاف، في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي اقتدى بها صحبه الكرام رضوان الله عليهم فسادوا بها الأنام لعهود طويلة، وانتشر بها الإسلام في أرجاء المعمورة. الفضلي شدد على أهمية أن يحمل كلام الأصدقاء على أحسن الوجوه، وأن يكون حسن الظن حاضرا على الدوام، ويتأكد ذلك بين الزوجين والإخوان، وأضاف اننا بحاجة ماسة إلى إنصاف العلماء والدعاة إلى الله تعالى، الذين يسعون في نشر الخير بين الناس ويبذلون من أوقاتهم وجهدهم وصحتهم، ويتعرضون أحيانا كثيرة لصور مختلفة من أنواع الأذى سواء المعنوي أو البدني أحيانا، مشيرا إلى أهمية إنصافهم وعدم تصيد أخطائهم وتتبع عثراتهم والتشهير بهم. وتابع: اننا نحتاج أيضا إلى إنصاف العاملين والقائمين على المؤسسات الخيرية في الكويت خاصة، فالكثير منهم يعمل لوجه الله ولا يتقاضى ولو دينارا واحدا، إلا أنه بسبب بعض الأخطاء الإدارية غير المتعمدة نجد هجوما شرسا من خصوم اللجان الخيرية المعروفين، يتعدى النواحي الإدارية إلى الطعن في ذممهم المالية، صور وتطبيقات كثيرة في خلق الإنصاف ناقشناها مع الداعية عبدالعزيز الفضلي، وفيما يلي تفاصيل الحوار:
بداية نود من فضيلتكم تعريف معنى الإنصاف، ومنزلته في الشريعة الإسلامية؟
معنى الإنصاف أن يعطي الإنسان غيره من الحق مثل الذي يحب أن يأخذه منه لو كان مكانه، ويكون ذلك بالأقوال والأفعال، في الرضا والغضب، ومع من نحب ومع من نكره، وتحقيق الإنصاف أمر دعانا له الله عز وجل وحثنا عليه كما قال تعالى في سورة النساء (يأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان خير قدوة في تطبيق الإنصاف والسيرة النبوية مليئة بالأمثلة ومنها موقف النبي صلى الله عليه وسلم من حاطب بن أبي بلتعة يوم بعث لقريش يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قادمون لقتالهم، ولما علم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالخبر عن طريق جبريل عليه السلام أتى بحاطب وواجهه بخطئه فأقر به واعتذر فأراد عمر بن الخطاب قتله لعظم الجرم الذي ارتكبه ولأن في ذلك خيانة للمسلمين إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن حاطب وقال «وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فمن باب الإنصاف لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم مكانة أصحابه الذين شاركوا في أول معركة حاسمة بين الإسلام والكفر، وكذلك نرى موقفه صلى الله عليه وسلم من الغامدية التي زنت ثم جاءت تائبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأقام عليها حد الرجم، فتطاير بعض دمها على احد الصحابة فسبها فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال «مهلا، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له» والحديث أخرجه مسلم.
إنصاف الزوجين لبعضهما البعض
ما صور الإنصاف بين الزوجين، وذلك لحاجة الناس إليه؟
صور الإنصاف عديدة بين الزوجين، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأنهن أكثر أهل النار، وبيّن لهن أن أحد الأسباب أنهن يكفرن العشير أي الزوج حيث أنه يحسن إلى إحداهن الدهر فإن رفض لها طلبا أنكرت كل المعروف السابق الذي قدمه لها، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الرجال قد تحسن اليه الزوجة وتخدمه قدر استطاعتها وتطيع أوامره، لكن ربما لخلاف بسيط حول مسألة تراه يحقرها ويسيء إليها وينتقص من مكانتها وربما افترى عليها عند أهله.
وأعجبني موقف في الإنصاف من بيت النبوة، ففي حادثة الإفك والتي اتهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما ليس فيها، سأل النبي صلى الله عليه وسلم زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها عن رأيها فيما نسب لعائشة، وكانت فرصة لزينب كي تنتقص من عائشة خاصة أنها كانت تنافسها في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن زينب قالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت عنها إلا خيرا.
ومن طرف الإنصاف: أن علي بن أبي طالب تزوج أسماء بنت عميس، وكانت قد تزوجت قبله أبا بكر الصديق وجعفر الطيار، وأنجبت من كل واحد منهما أولادا، فتفاخر محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، فقال كل منهما: أبي خير من أبيك، فقال علي بن أبي طالب لأسماء اقضي بينهما، فقالت رضي الله عنها: ما رأيت شابا في العرب خيرا من جعفر، ولا رأيت كهلا خيرا من أبي بكر، فقال علي: ما تركت لنا شيئا، فقالت: إن ثلاثة أنت أقلهم خيار. فمن إنصافها أنها ذكرت زوجيها السابقين المتوفيين بخير برغم وجود زوجها الثالث، وكان انصاف علي أنه لم يغضب لقولها وإنما أقرها عليه.
في التعليم
الإنصاف أيضا لابد أن يحضر لدى الأساتذة والمعلمين والمربين، وأعني بذلك المسؤولين في المؤسسات التعليمية المختلفة، فهل عندك قصص ووقائع حول هذه القضية المهمة؟
من صور عدم الإنصاف ما نسمعه من شكاوى ضد القائمين على المؤسسات التعليمية سواء في مراحل التعليم الأولى أو في الدراسات العليا، وذلك عندما يتم إعطاء الدرجات للطلاب لا على حسب اجتهاد الطالب وأدائه وعمله وإنما تعطى الدرجات بحسب صلة القرابة أو الصداقة أو المصلحة، ونحن لا نعمم فهناك الكثير من المنصفين ولكن في المقابل يوجد نقيضهم، وبالمناسبة أود أن اذكر حادثة قصها علينا د.سعد المرصفي حفظه الله أيام دراستنا الجامعية، حيث أخبرنا أنه في احد الاختبارات الشفهية سأل الدكتور طالبة محجبة عن تعريف الحجاب شرعا واصطلاحا فلم تعرف الإجابة فسأل نفس السؤال لزميلتها التي كانت بجانبها وكانت غير محجبة، فأتت بالإجابة كاملة، فقال الدكتور لغير المحجبة أنت عشرة من عشرة، وقال للمحجبة أنت صفر من عشرة، يقول الدكتور وكانت المفاجأة في اليوم التالي حيث أتت الفتاة المتبرجة وقد ارتدت الحجاب، وهذا يدل على الأثر العظيم الذي يتركه تطبيق الإنصاف بين الناس.
بين العلماء والخيرين
هل يمكن تطبيق خلق الإنصاف أيضا مع العلماء والمصلحين؟
يتأكد تطبيقه مع العلماء والمصلحين، فالناس يجب أن ينصفوا العلماء والدعاة إلى الله تعالى فهؤلاء الذين يسعون في نشر الخير بين الناس ويبذلون من أوقاتهم وجهدهم وصحتهم لتذكير الناس وتوجيههم، ويتعرضون لصور مختلفة من أنواع الأذى سواء المعنوي أو البدني أحيانا، فهؤلاء لا ينبغي للمنصف والصادق أن يكون منهجه وطريقته تصيد أخطائهم وتتبع عثراتهم والتشهير بهم، فقد نقل عن ابن عساكر قوله: «إن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء في الثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب».
فالعلماء والدعاة إلى الله تعالى بشر يصيبون ويخطئون ومن كان خيره أكثر من شره، وخطؤه يعتبر نقطة في بحر حسناته فيجب العفو عن قليل زلاته، وقديما قيل:
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وقيل أيضا:
من ذا الذي ما ساء قط
ومن له الحسنى فقط
ومن الإنصاف الذي نحتاجه إنصاف العاملين والقائمين على المؤسسات الخيرية في البلاد، فالكثير منهم يعمل لوجه الله ولا يتقاضى ولو دينارا واحدا، إلا أنه بسبب بعض الأخطاء الإدارية غير المتعمدة نجد هجوما شرسا من خصوم اللجان الخيرية، يتعدى النواحي الإدارية إلى الطعن في ذممهم المالية.
وهذا بلا شك من أنواع الفجور في الخصومة.
مع المخالف
الإنصاف مع المخالف... كيف يكون؟
هو أن تقوم بالعدل والإنصاف مع من يخالفك في الرأي أو في الدين أو في المذهب، وقال نبهنا لذلك ربنا تبارك وتعالى في كتابه حيث قال (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) أي لا يحملكم كره قوم وبغضهم على عدم العدل والإنصاف معهم.
والكفار مثلا لا ينبغي أن نحكم عليهم حكما واحدا فهذا من عدم الإنصاف، فإن الله تعالى فرّق في الحكم بين بعضهم البعض فقال عزّ وجل: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما). فالله تعالى يوضح لنا أن أهل الكتاب منهم الأمين ومنهم غير ذلك.
ولما طلب الناس من عمرو بن العاص أن يصف الروم قال: «إنهم أحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وأمنعهم من ظلم الملوك».
هذه الأوصاف لو نقلت عن أحد الدعاة اليوم لقيل فيه خائن وعميل وموالي للكفار إلى غيرها من الأوصاف، وأنا هنا لا أقدس الغرب ولا أدعو لموالاة أهل الكتاب، بل الكل يعرف كم لهؤلاء من الجرائم التي ارتكبوها في حق المسلمين، فها هي فلسطين وأفغانستان والشيشان، والبوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين كلها تشهد على الحقد الصهيوني والصليبي، ولكن مع ذلك أقول لابد أن نفرق بين المحاربين المقاتلين وبين المسالمين، وقد بين لنا ربنا تبارك وتعالى ذلك أيضا في سورة الممتحنة حيث قال مبينا الفرق بين كلا الفريقين (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
لقد رأينا في الواقع مواقف لبعض النصارى بل حتى بعض اليهود في نصرة قضايا المسلمين أكثر حتى من مواقف بعض المسلمين والتي ربما وقفوا فيها مع المعتدين، وجريمة الصهاينة واعتداؤهم على غزة خير دليل على ذلك.
ومن صور الإنصاف ما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله حول أخطاء بعض المبتدعة ومقارنتهم بالكفار حيث يقول كما في مجموع الفتاوى «كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو خير من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والمرجئة والقدرية أو غيرهم فإن اليهود والنصارى كفار كفرا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف له لم يكن كافرا به.
إن من الإنصاف أن نقبل كلمة الحق ولو جاءت من كافر، ودليل ذلك أن الله تعالى في كتابه صدق وأكد ما قالته بلقيس ملكة سبأ حين قالت (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) قال تعالى تأكيدا لكلامها: (وكذلك يفعلون) فالله تعالى صدّق كلامها وهي كافرة، وهذا غاية العدل والإنصاف.
صفات المنصفين
هل هناك صفات خاصة يعرف بها أهل الإنصاف الحق؟
صفات أهل الإنصاف:
1 - التجرد عند الكلام على المخالفين، لأن كل إنسان يحب الانتصار لمذهبه وملّته.
2 - التبين والتثبت قبل إصدار الأحكام، كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) الحجرات 6.
3 - حمل الكلام على أحسن الوجوه، كما قال سعيد بن المسيب «لا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا».
4 - عدم نشر السيئات ودفن الحسنات. ولذلك قال ابن سيرين رحمه الله «ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره».
5 - النقد يكون للرأي وليس لصاحب الرأي، وللأسف نقرأ ونسمع في كثير من المقابلات كيف ينتقل الحوار من مناقشة الآراء إلى التطرق للحياة الشخصية للمخالفين.
6 - حمل كلام المخالف على ظاهره وعدم التعرض للنوايا، لأنه لا يعلم ما في الضمائر إلا الله.
أخيرا، ما فوائد الإنصاف التي يجب الالتفات إليها لنعلم حقا أهمية هذا الخلق الرفيع؟
فوائد الإنصاف:
1 - من العوامل المساعدة على استقرار المجتمعات وشيوع المحبة بين أفرادها.
2 - يشعر كل فرد أنه آمن على نفسه وعرضه وماله، على اعتبار أن حقه لن يضيع.
3 - يطمئن الضعيف والفقير واليتيم على مستقبله، دون خوف من وقوع ظلم أو جور.
4 - يعم المجتمع التآلف والإخاء بغض النظر عن الاختلافات العرقية أو المذهبية.
5 - تسلم المجتمعات من التطرف والعنف، لشعور الجميع بأنهم يعاملون مع الآخرين بكل عدل وإنصاف دون تمييز أو تفرقة.