ان أوضاع العرب والمسلمين السياسية تؤثر سلبا على أوضاعهم العلمية والثقافية، فالراصد للنشاط الثقافي أو الحركة العلمية بعامة في عالمنا العربي والإسلامي، يلحظ الضمور العام في الكم والكيف، وهذه نتيجة منطقية عادلة، اذ كلما عاش الفرد في استقرار أمني نفسي ومادي كانت تطلعاته وآماله واسعة سامية، فكان الإنتاج والإبداع والتقدم سمة حركته ونشاطه في كل مجال، وفي ذلك قوة الأمة وكرامة الفرد وسعادته، وكلما عاش في شظف من العيش وضنك، وسامه الحكام الظالمون سوء العذاب، فأنى له الابداع والحضارة، ولذا يقول الإمام الغزالي حجة الإسلام: «من كان جميع أوقاته مستغرقا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل».
ويقول ابن خلدون: «ان الملك اذا كان قاهرا، باطشا، منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم، فإن الاستعباد يؤدي الى إسراع الفناء الى الأمة المستعبدة بسبب ما يحصل في النفوس من التكاسل، فيقتصر الأمل ويضعف التناسل، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل تناقص عمرانهم، وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم».
يقول الإمام أبويوسف يعقوب بن ابراهيم صاحب أبي حنيفة في رسالته إلى هارون الرشيد: «ان جور الراعي هلاك للرعية، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة».
ان أوضاعنا السياسية الكئيبة المضطربة التي تدخل الفرد والأمة في دوامة ومأساة، ثم تخرجهما الى ما هو أكبر وأعقد، لم تكن بالمصادفة العابرة، وإنما تخطيط خصوم الإسلام التاريخيين الذين يظنون ان المسلمين اذا اتخذوا الإسلام سياستهم، فإن التضاد والتصادم هو نتيجة التقاء الإسلام بالحضارة، وهذه معادلة يكذبها التاريخ، الذي يدركه خصومنا أكثر منا، انهم يدركون ان الإسلام يملك عناصر الحياة والتقدم والرقي والحضارة، يدركون انه قاد حضارة الدنيا بجدارة واقتدار، ولكنهم لا يريدونها حضارة ربانية إيمانية، يريدونها حضارة لا دينية لا أخلاقية وهذا الذي أسموه «علمانية» وهذا هو محز الخلاف عبر التاريخ.
وهنا يأتي السؤال: هل واقع المسلمين المتخلف علميا وثقافيا وحضاريا راجع الى عدم أخذ المسلمين بالإسلام عقيدة ومنهجا؟
والجواب المباشر: نعم، فما نحن فيه من اضطراب سياسي هو نتيجة استبعاد الإسلام من منهج حياتنا الاجتماعية والتربوية والعلمية والثقافية والاقتصادية، ومن ثم السياسية، فواقعنا المتخلف هو نتيجة النتيجة، فاستبعاد الإسلام هو السبب الأم الجامع لأمهات السلبيات في شتى شؤون الحياة، حتى غدونا أكثر البلاد تخلفا، ونحن نملك أسباب التقدم المادي والمعنوي، وأكثر البلاد فقرا، ونحن نملك كنوز الدنيا تحت أقدامنا، فقد سلبت خيراتنا، وديست كرامتنا وامتهنت، ورضينا بعد هذا ان نقتات على فضلات خصومنا، وفوق هذا كله وبعده لا يتورع البعض منا ان يردد مقالة خصومنا لمن يضع اليد على الجرح النازف ويقول: أيها الناس الإسلام.. الإسلام حتى يقال: هذا رجعي! فلما استهلكت الكلمة قالوا: هذا متعصب! فلما استهلكت قالوا: هذا متطرف! فلما استهلكت قالوا: إرهابي! ومنا من يصدق، ومنا من يقول: نحسن الظن، وكذبوا: لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، ومن تساهل منا قال: ان الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن أوضاعنا السياسية صعبة، والتركيبة الاقتصادية العالمية معقدة، والعلاقات الدولية كذا.. وكذا.. وكأن الإسلام سيف مصلت! أو نظم فوضوية متجمعة! أو تخلف مركب! أو عدو حضارة وإنسانية!
وهذه شنشنة نعرفها.. وترهات ندركها، ويدركها خصومنا أكثر منا، فقد تيسر لهم من الوقت ما يكفي لقراءة تاريخ الإسلام، تاريخ الحضارة الإسلامية الذي حقق العدل والمساواة كما لم ولن تتحقق في حضارة قط.
والتاريخ ينطق وهم يفهمون: ان نزول الإسلام في ساحة ما لن ينازعه فيها غيره من الحضارات ايجابية وعطاء، وتنمية، ومع ذلك فهو ليس عدوا لمن خالفه حضاريا، ولو كان ذلك كذلك لجعل الإيمان بعقيدته لازما لكل الناس، لكنه لم يفعل، مع انه سبب الفلاح في الدنيا والآخرة، فكيف يجعل عداءه مع غيره بسبب ماديات زائلة؟!
اننا كعرب ومسلمين في حاجة الى وقت كاف نقتطعه اقتطاعا، نلتقط فيه أنفاسنا وسط هذا الزخم المتجمع، والنكبات السياسية المتلاحقة، نجتمع لندرس هذه المعادلة: «الإسلام والسياسة»، ونضع بعد ذلك النقاط على الحروف، ثم نواجه بها أنفسنا وحكامنا وأمتنا، حلوة كانت النتيجة أو مرة، وهي بلا ريب: حلو مرة، لكن كيف السبيل الى جني حلوها، وتحمل مرارتها وتخطيها، هذه مسألة معضلة تحتاج الى وقفات جادة وقفات أمة حضارة الأمس أمام حضارة أمم اليوم، ولا بد ان ذلك واقع يوما ما، قصر الزمان أو طال، وحين نحل هذه المعادلة يحل ما بعدها من قضايا الحركة العلمية والثقافية وما اليهما.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
بقلم: د.عجيل النشمي