- «مجلة العربي» الكويتية أول من أطلق على موريتانيا «بلد المليون شاعر»
- فضل الكويت حكومة وشعباً على أهل موريتانيا كبير
- البادية الموريتانية هي البادية العربية الوحيدة التي تحتفظ بتقاليد علمية مكتوبة وتزخر بالعلماء والأدباء
- أهم ميزة للعلماء الشناقطة هي حفظ المتون العلمية واستحضارها
ليلى الشافعي
أكد الإمام بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والباحث الشرعي الداعية عبدالرحمن الشنقيطي أن اسهامات العلماء الشناقطة في الحركة العلمية والأدبية والتبحر في العلم والتفنن فيه جاءت لما قدمه علماء شنقيط من جهود جبارة في نشر العلم قديما وحديثا في تلك البلاد وفي نشر الدين الاسلامي وتعليم الشريعة واللغة العربية على جوارهم الأفريقي.
وقال خلال حواره مع «الإيمان» إن فضل الكويت على أهل موريتانيا كبير حيث تربط البلدين روابط عميقة ثقافية وفكرية وإن أول من أطلق على موريتانيا بلد المليون شاعر هي مجلة العربي الكويتية.
ولفت إلى أن العلماء الشناقطة يتميزون بحفظ واستحضار المتون العلمية عن ظهر قلب، مشيرا الى تأثير البادية العربية على إجادة اللغة العربية وإيجاد علماء حفاظ متقنين رغم أن معظم موريتانيا عبارة عن مجموعات بدوية عربية متنقلة في صحراء مترامية لا تمت إلى المدنية بصلة، ومع ذلك فهي البادية العربية الوحيدة التي تحتفظ بتقاليد علمية مكتوبة، وتطرق الى الكثير من المعلومات التي تهم القارئ، فإلى نص الحوار:
على الرغم من الصيت الكبير والمكانة المرموقة للعلماء الشناقطة في الأوساط العلمية والفكرية، إلا أننا نحتاج منكم تحديدا دقيقا لمرجع هذه النسبة «الشنقيطي»؟
٭ شكرا، هذا السؤال يطرح كثيرا، خاصة في أوساط طلبة العلم في المشرق العربي، وجوابه أن النسبة إلى «شنقيط» هي نسبة إلى مدينة عتيقة، أسست في أواسط القرن السابع الهجري، تقع في منطقة الشمال الموريتاني، ومعنى هذه التسمية «شنقيط» هو «عيون الخيل» باللغة الصنهاجية القديمة، وقد اشتهرت هذه المدينة حتى صار يسمى باسمها القطر الموريتاني كله، من باب تسمية الكل باسم الجزء.
البادية العربية
ما السر وراء اشتهار الشناقطة بالعلم وحفظ المتون، ولاسيما في علوم اللغة العربية؟
٭ لا شك أن الناظر للوهلة الأولى إلى الواقع البيئي والمناخي لتلك البلاد تتملكه الدهشة والاستغراب، وهو يرى صحراء جرداء شحاحا تنتج علماء حفاظا متفننين، فبلاد شنقيط التي هي الآن «الجمهورية الإسلامية الموريتانية» لم تكن إلى عهد قريب بل لايزال معظمها حتى الآن مجموعات بدوية عربية متنقلة في صحراء مترامية، لا تمت إلى المدنية بسبب ولا بصلة، ومع ذلك فقد كانت استثناء من البادية العربية عبر تاريخها المديد، فهي البادية العربية الوحيدة التي تحتفظ بتقاليد علمية مكتوبة، وتزخر بالعلماء والأدباء والمثقفين، وقد أمكنها من ذلك ما عرف به أهلها من همة عالية في طلب العلم، وصبر وجلد في تطلبه والعكوف عليه.
قسوة الظروف
ما الطرق التي يتبعها الشناقطة في حفظ العلم وضبط مسائله، رغم ما ذكرتم من قلة الوسائل لديهم، ورغم شظف العيش وقسوة الظروف؟
٭ اشتهر أهل تلك البلاد بمدارس تقليدية، تعرف هناك بالمحاظر، يقيم كل شيخ محظرته في قريته، بوسائله البدائية البسيطة، ويجتمع عليه أبناء القرية صغارا وكبارا ومن يفد إليهم من طلاب العلم من القرى الأخرى أو من البلاد الافريقية المجاورة، ويدرسهم علوم الشريعة واللغة العربية معتمدا منهج التدرج في حفظ المتون من المختصرات المتعارفة في كل فن إلى أن ينتهي الطالب من إتقان المطولات المشتملة على دقائق ذلك الفن وجزئياته، وهم يستثمرون عامل البعد عن الحياة المدنية وملهياتها استثمارا حسنا، فيشغلون نهارهم بالحفظ والاستذكار، وليلهم بالأسمار العلمية والأدبية، وذلك ما وصفه الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا بقوله:
وكم سامرت سمارا فتوا
إلى المجد انتموا من محتدين
حووا أدبا على حسب فداسوا
أديم الفرقدين بأخمصين
أذاكر جمعهم ويذاكروني
بكل تخالف في مذهبين
كخلف الليث والنعمان طورا
وخلف الأشعري مع الجويني
وأوراد الجنيد وفرقتيه
إذا وردوا شراب المشربين
وأقوال الخليل وسيبويه
وأهلي كوفة والأخفشين
نوضح حيث تلتبس المعاني
دقيق الفرق بين المعنيين
وأطوارا نميل لذكر دارا
وكسرى الفارسي وذي رعين
ونحو الستة الشعراء ننحو
ونحو مهلهل ومرقشين
وشعر الأعميين إذا أردنا
وإن شئنا فشعر الأعشيين
ونذهب تارة لأبي نواس
ونذهب تارة لابن الحسين
والحقيقة أن أهم عامل في اشتهار أهل بلاد شنقيط بالعلم والحفظ إنما هو بعد فضل الله عليهم ما ذكرناه مختصرا، من علو الهمم وقوة العزائم وصفاء الأجواء من المنغصات والملهيات الدنيوية، وقد كنت أسأل من طلاب علم مشارقة بمثل ما سألتم فأجيب بهذا الجواب، إلى أن قال لي أحد طلاب الجامعة الإسلامية النجباء، وكان له تتلمذ على العلماء الشناقطة في المدينة النبوية، قال لي: ياشيخ، لقد عرفت السر الحقيقي لقوة الحافظة لديكم معشر الشناقطة قلت له: أفدني رحمك الله فقال: لم أجلس إلى شيخ شنقيطي إلا كان طوال الدرس يحتسي كؤوس الشاي الأخضر فحرصت على تعلم الطريقة الموريتانية في إعداده وأحضرت عدته كاملة في البيت وأنا أصنعه كل وقت لي ولأهل البيت وللضيوف، فقلت له: إني أشفق عليك أن تكثر منه فيضرك، فو الله ما هو بنافعك في قوة حافظتك ولا في شحذ همتك للعلم، وقد يعينك في طرد الكسل والتخلص من الفتور والنعاس ـ لا أقل ولا أكثر ـ.
المشرق العربي
ما أوجه إسهامات العلماء الشناقطة في الحركة العلمية والأدبية في بلدان المشرق العربي؟
٭ في بلدان عديدة ارتبطت في أذهان طلبة العلم النسبة إلى شنقيط بالتبحر في العلم والتفنن فيه، وما ذاك إلا لما قدمه علماء شنقيط من جهود جبارة، في نشر العلم قديما وحديثا في تلك البلاد، وهكذا لم يقصروا جهودهم في نشر الدين الإسلامي وتعليم الشريعة واللغة العربية على جوارهم الأفريقي، بل هاجر منهم كوكبة فطاحل إلى بلدان المشرق والخليج العربي، فكان لهم إسهامهم المشهود في بعث الحركة العلمية والفكرية والأدبية فيها، ومن هؤلاء العلامة محمد محمود ولد التلاميد التركزي الذي يرجع اليه الفضل على كل المكتبات العربية بإملائه وتصحيحه لأول نسخة كاملة من القاموس المحيط، والمخصص لابن سيده، وغيرهما من أمهات الكتب والدواوين الشعرية.
وقد قال عنه طه حسين: «كان أولئك الطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب»، ومنهم ـ كذلك ـ العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، صاحب كتاب «أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن» وهو أحد مؤسسي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وعضو هيئة كبار العلماء في عهد الملك فيصل رحمه الله تعالى، وقد أخذ عنه العلم علماء كبار سعوديون وغيرهم.
قال عنه العلامة عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله: «من سمع حديثه حين يتكلم في التفسير، يعجب كثيرا من سعة علمه واطلاعه وفصاحته وبلاغته، ولا يمل سماع حديثه»، وهو ممن تتلمذ عليه في علم المنطق.
وكنت أثناء دراستي بالجامعة الإسلامية أواسط التسعينيات من القرن الماضي، قد عاصرت مجموعة من العلماء الشناقطة تربو على العشرة، يتولون التدريس في مختلف الكليات، ويحظون بالتقدير الكبير لدى طلبة العلم، كما عاصرت الشيخ العلامة أحمدو الشنقيطي يتحلق حوله أعداد هائلة من طلاب العلم في المسجد النبوي الشريف يأخذون عنه علمي النحو والصرف، اللذين أحاط بهما أيما إحاطة. وممن أدركته وأخذت عنه الفقه في الجامعة الإسلامية والمسجد النبوي الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، وهو الآن عضو هيئة كبار العلماء في المملكة، بالإضافة إلى أعداد من العلماء والمشايخ الشناقطة يدرسون في مختلف الجامعات والمراكز العلمية السعودية، ويتميزون بحفظ واستحضار المتون العلمية عن ظهر قلب.
الخليج العربي
ذكرتم نماذج من مشاركات الشناقطة العلمية في المشرق العربي وخاصة في السعودية، فهل امتدت تلك الجهود لتشمل بقية دول الخليج العربي ودولة الكويت تحديدا؟
٭ نعم، ارتبطت الكويت وموريتانيا بعلاقات علمية منذ القديم، فقد وصل إلى الكويت علماء شناقطة، أسهموا إسهامات جيدة في إثراء الساحة العلمية والفكرية للبلد، من هؤلاء الشيخ محمد أمين الشنقيطي الذي كان مقربا من أمير الكويت حينها الشيخ أحمد الجابر، حيث دعاه للإقامة بالكويت في أوائل عشرينيات القرن الماضي، وكان محل حفاوته وإكرامه، وشارك في تأسيس الجمعية الخيرية الكويتية، وفي تقديم محاضرات شرعية وفكرية في النادي الأدبي، كما أقام دروسا وحلقات شرعية ووعظية في المساجد والمحافل والملتقيات العامة، وقد بقي الشيخ الشنقيطي في الكويت يدرس ويعظ إلى أن توفي عام 1932 ميلادية، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير ـ رحمه الله تعالى.
المليون شاعر
وما الدليل على ذلك؟
٭ من دلائل عمق الروابط الثقافية والفكرية بين موريتانيا والكويت وتجذرها أن أول من أطلق على موريتانيا «بلد المليون شاعر» مجلة العربي الكويتية في تقرير نشرته عام 1967 عن موريتانيا تحت عنوان «نواكشوط... أحدث عاصمة في أقصى منطقة من وطننا العربي»، حيث أسند كاتب التحقيق هذه الكلمة إلى محاوريه من المواطنين الموريتانيين عندما قال: «وسألناهم: كم عدد سكان موريتانيا؟ فأجابوا: مليون شاعر.. نعم فكل أهالي موريتانيا شعراء»، وقتها كان إحصاء السكان يقارب هذا العدد، أي مليون نسمة.
وهذه العلاقات والروابط العريقة العميقة لاتزال وستظل بإذن الله قائمة على أصولها الراسخة، متجددة ومتنوعة، فهنا في دولة الكويت يعمل عدد من الأساتذة الموريتانيين المتميزين في المواد الموكل إليهم تدريسها، كما يوجد عدد من المشايخ الخيرين يعملون أئمة ومؤذنين وباحثين شرعيين، والكثير منهم يعطي دروسا علمية ولغوية عامة لطلاب العلم، سواء في بيته أو في مسجده أو في بعض المناسبات والدورات.. وغير ذلك.
وفضل الكويت حكومة وشعبا على موريتانيا وأهلها كبير، وكل الموريتانيين يذكرون ذلك الفضل ويشكرونه، ويكنون صادق المحبة والعرفان بالجميل لكويت الخير وأهلها الكرماء.
ويبقى الأمل في أن تتعزز هذه العلاقات، ويزدهر هذا التبادل العلمي وتتسع مجالاته إلى أضعاف ما هي عليه الآن، ولاشك أن النية والتوجه موجودان لدى قادة البلدين الحريصين على الارتقاء الدائم بتلك العلاقة الأخوية الحميمة بين الشعبين الشقيقين.