لا ريب أن نهضة المسلمين في اتحادهم، فالاتحاد قوة، وهو قوة إذا اجتمع المسلمون على ما اجتمع عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن نافلة القول أن أحد أهم أسباب انهيار حضارة الإسلام، هو الفرقة، وذهاب الريح، جريا على سنة الله تعالى سبحانه (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.. سورة الأنفال).
ولقد تنازع المسلمون فيما بينهم، حتى أكل بعضهم لحم بعض، وأصبحوا شيعا متنافسة متنابذة، فحل بهم وعيد الله عز وجل: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون.. الأنعام 65)، وعن سعد بن أبي وقاص قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين فصلينا معه، فناجى ربه عز وجل طويلا ثم قال: «سألت ربي ثلاثا، سألته: ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته: ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته: ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
قال ابن كثير: في قوله تعالى (أو يلبسكم شيعا) يعني: «يجعلكم ملتبسين شيعا، فرقا، متخالفين: قال ابن عباس: يعني الأهواء، وكذا قال مجاهد، وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»، وقوله تعالى: (ويذيق بعضكم بأس بعض): قال ابن عباس وغير واحد: يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل، وقوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات) أي نبينها ونوضحها مرة، ونفسرها (لعلهم يفقهون.. الأنعام 65) أي يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه.
وقال ابن عطية في الآية: «إنها إخبار يتضمن الوعيد، والأظهر من نسق الآيات: ان هذا الخطاب للكفار، الذين تقدم ذكرهم، وهو مذهب الطبري، وقال أبي بن كعب، وأبو العالية، وجماعة معهما: هي للمؤمنين، وهم المراد، وظاهر الآية العموم، وظاهر الحديث تأكيد شمولها المؤمنين المسلمين».
ولا شك أن التعاون أصل من أصول الدين، وقد ورد لفظ التعاون في القرآن الكريم في آية واحدة هي قوله تبارك وتعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب.. المائدة 2).
والتعاون على البر والتقوى أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى، أي ليعن بعضكم بعضا، وتحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه، وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدال على الخير كفاعله» وقد قيل: الدال على الشر كصانعه، قال ابن عطية: «والعرف في دلالة هذين اللفظين ـ البر والتقوى ـ رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر ـ كما يرى البعض ـ فيتجوز»، وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر، وقرنه بالتقوى؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى، ورضا الناس، فقد تمت سعادته، وعمت نعمته، وقال ابن خويز منداد: «والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه: فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم، الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين باليد الواحدة: «المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» ويجب الإعراض عن المعتدي، وترك النصرة له، ورده عما هو عليه، ثم نهى الله تعالى فقال: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) والإثم: هو الحكم اللاحق عن الجرائم، والعدوان هو ظلم الناس، ثم أمر الله بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال: (واتقوا الله إن الله شديد العقاب.. المائدة 2).
لقد جاءت آية التعاون عامة للناس أجمعين، وهي في أصلها وفي خاصة سببها وخطابها للمؤمنين. جاءت الآية لتقر أصلا من أصول هذا الدين، وهو التعاون حتى مع الخصوم والأعداء، ما دامت الغاية نبيلة وشريفة، غاية البر بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، والتعاون بهذا المعنى جزء من العدالة: ومفرد من مفرداتها، فالخصومة... والعداوة ولو كانت مع المخالفين في الدين فإنها لا تعدم العدل ولا تطيش بميزانه، وتقريرا لهذا الأصل، وتأكيدا عليه جاء قوله عز وجل: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين... الممتحنة 8).
وتعتبر آية التعاون الكريمة اعظم آية وأنصع دليل على سمو مبدأ العدالة في الاسلام، وهو يحمل المسلمين مسؤولية ايمانية، واخلاقية عظيمة تغاير ما كان عليه العرب في جاهليتهم، فالآية الكريمة تقرر بوضوح ان مبدأ التعاون على البر مع الأعداء مَنْطِقُهُ العدالة والقسط، وفي هذا اشارة قوية الى ان التعاون بين المؤمنين مفترض، ومفروغ منه، لان من الواجبات ومن حق المسلمين بعضهم على بعض، ومجتمع مسلم لا يقوم على مبدأ التعاون بين أهله يفقد عنصرا من عناصر حياته، وأساسا من أسس دينه، ولن يكون حليفه الا الفشل والفرقة.
وهذا المعنى من الآية يصحح مفهوما خاطئا استشرى حتى بين فئة من العلماء وطلبة العلم، هو ان مفهوم التعاون ان يظل المسلمون فرقا ومذاهب وجماعات واحزابا يتعاونون فيما يتفقون عليه، مما يعود عليهم بالمصالح المتبادلة، وهذا المعنى وان كان مقصودا ومرغوبا لكنه خلاف الاصل المقصود في الآية الكريمة، وهو التعاون في ظل وحدة اسلامية، فان لم تكن وحدة فالتعاون لايجاد هذه الوحدة لا التعاون فيما دونها، مع بقاء التشرذم، والتحزب، والجماعات وينتصر كل فريق لفئته، ويكرس ويؤكد فرقته ويقبل التعاون فيما يسمى بفقه المصالح ويترك الأصل وهو الوحدة الايمانية ويترك التعاون من اجلها، ولو كان مرحليا.
بقلم: د. عجيل النشمي