الإيمان باليوم الآخر
وأثره على السلوك
خلق الله سبحانه الخلق لعبادته وتوحيده. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ـ الذاريات: 56)، وقال سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ـ النحل: 36).
فمن الناس من آمن واتبع الرسل، ومنهم من عاند وأعرض، وخاطب الله سبحانه الجميع بأنهم عائدون إليه والله يجزيهم بأعمالهم. قال عز وجل: (وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ـ الأنبياء: 93).
فالمرجع إلى الله وإليه المآب، ولكن الناس في هذه الحياة منهم مصدق، ومنهم مكذب، ومنهم مسوف وأمله بعيد وهو في غفلة.
قال الناظم:
الناس في غفلة والموت يوقظهم
وما يفيقون حتى ينفد العمر
يشيعون أهاليهم بجمعهم
وينظرون إلى ما فيه قد قبروا
ويرجعون إلى أحلام غفلتهم
كأنهم ما رأوا شيئا ولا نظروا
هكذا شأن أكثر الناس يتأثرون ويقولون: فلان مات فلان مات، ثم تعود الغفلة.
والأمر كما قيل: ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار.
قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ـ المؤمنون: 115و116) أي أتظنون أن خلقكم لعب وعبث لا لحكمة فلا ثواب ولا عقاب ولا مآب للجزاء والحساب فتعالى الله أي تعاظم عن ظنونكم الباطلة.
إن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان ومنكره كافر، والواجب على المسلم العاقل استحضار يوم القيامة في أعماله خوفا ورجاء يستحضرها ويحتسبها لله تعالى.
نرى الجنة أمامنا بنعيمها دائما لا تغيب عنا، ونرى النار بهولها وعذابها لا تفارق خيالنا، فهذه اليقظة المستمرة تثمر في قلب المؤمن الرجاء في أن يكون من أهل الجنة فيحمله رجاؤه على طاعة الله، ويحجزه خوفه من الله على اجتناب محارم الله وما لم يأذن به الله، فترى الذي يخاف الدار الآخرة مراقبا لنفسه فيأتي الواجبات مسرعا راغبا بما عند الله، وكذلك يحمله الإيمان بربه على أداء الأمانة والصدق والعدل، وكذلك يحمله على ما أمر الله به من أنواع الأوامر في التعامل الحسن مع النفس والأهل والأرحام، والأصدقاء، وعموم المسلمين.
وكذلك اليقظة توجب على المسلم اغتنام وقته هو وأهله وذريته بما ينفع فيستثمر حياته كلها لله، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ـ الأنعام: 162و163).
لأن الحياة الدنيا فانية، والحياة الدائمة هي حياة الآخرة لهذا يقول المفرط يوم القيامة: (يقول يا ليتني قدمت لحياتي ـ الفجر:24) لأنها الحياة الدائمة، أما الدنيا فإنها أحلام نوم، وظل زائل، وهي أشبه بالزيارة القصيرة، قال تعالى: (ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر ـ التكاثر: 1و2)، فأخبر الله سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت فزاروا المقابر ولم يفيقوا من رقدة من ألهاهم التكاثر وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت ايذانا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين في القبور، وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا في الدنيا زائرين لها غير مستقرين فيها ودار القرار هي الجنة أو النار.
قال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ـ العنكبوت: 64).
فالحياة الدنيا فانية، وأما الآخرة فهي الدار الكاملة التي من لوازمها أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة والجمال، لأنها خلقت للحياة فتتم بها اللذات من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فلو أن الناس يعلمون لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان، ورغبوا في دار اللهو واللعب.
إن استحضار اليوم الآخر في قلب المؤمن يعدل السلوك، ويصحح الأخلاق، ويحفز المؤمن للطاعات، ويبعده عن السيئات، وهذا هو الوازع الديني، ولهذا دائما ما كان يربط النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالإيمان بالله واليوم الآخر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» رواه البخاري (6475).
وعند الإمام أحمد بسند صحيح: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر».
كل هذه الشواهد وغيرها كثير تهذب النفس وتربيها التربية الإيمانية، ويذكرنا الله بهذا اليوم مرات عديدة في اليوم والليلة من خلال قراءة سورة الفاتحة بالصلاة (مالك يوم الدين)، وليس هذا فحسب فإنه يوم الخروج ويوم الحسرة ولها تسميات ولها دلالات تربي في النفس ألا ظلم لأحد، وحتى تتفجر ينابيع الخير في النفس استعدادا لذلك اليوم العظيم فيبر الولد بوالده، ويحسن كل من الزوجين عشرة بعض، ويحترم المسؤول رعيته، ويمسك التاجر عن الغش والحرام، وينفق الغني من ماله على المحتاجين، ويؤدي الموظف وظيفته بإتقان.