بقلم: أ.د. وليد العلي
تأملوا قول المرأة لأبيها: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين): كيف جاء بعد قول موسى: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين؟
فالقوة إن لم تلجمها الأمانة كانت صرعة لهذه النفس، لما يخشى منها من انتهاك إحدى الضروريات الخمس، فالقوي الأمين: يحفظ الله تعالى به النفس والنسل والمال والعقل والدين، والضعيف الخائن: إن لم ينتهك بنفسه الحرمات كان ظهيرا للمجرمين.
فتعاونوا جهدكم مع القوي الأمين على البر والتقوى، ولا تعاونوا مع الضعيف الخائن على الإثم والعدوان، فأنتم شركاء في أجر المعروف مع من أعنتموه بقوة، كما أنكم شركاء بوزر منكر يأمر به كل أثيم خوان.
فأمارة القوي الأمين: التماس رضا الله تعالى بسخط الناس ومخالفة هواه، وعلامة الضعيف الخائن: التماس رضا الناس وموافقة هواه بسخط مولاه.
ثم اعتبروا بحال سلف الأمة الأول، الذين على متابعة سبيلهم المعول: قال موسى بن عقبة رحمه الله تعالى: «لما ولي عياض بن غنم: قدم عليه نفر من أهل بيته يطلبون صلته ومعروفه، فلقيهم بالبشر، فأنزلهم وأكرمهم، فأقاموا أياما، ثم سألوه في الصلة، وأخبروه بما تكلفوا من السفر إليه، رجاء معروفه، فأعطى كل رجل منهم عشرة دنانير -وكانوا خمسة- فردوها واستخطوا ونالوا منه، فقال: أي بني عم، والله ما أنكر قرابتكم، ولا حقكم، ولا بعد شقتكم، ولكن والله، ما خلصت إلى ما وصلتكم به إلا ببيع خادمي، وببيع ما لا غنى لي عنه، فاعذروني.
قالوا: والله، ما عذرك الله، إنك والي نصف الشام، وتعطي الرجل منا ما جهده أن يبلغه إلى أهله! قال: فتأمروني أن أسرق مال الله؟ فوالله، لأن أشق بالمنشار، أو أبرى كما يبرى السفن: أحب إلي من أن أخون فلسا، أو أتعدى وأحمل على مسلم ظلما أو معاهد.
قالوا: قد عذرناك في ذات يدك ومقدرتك، فولنا أعمالا من أعمالك نؤدي ما يؤدي الناس إليك، ونصيب ما يصيبون من المنفعة، فأنت تعرف حالنا، وأنا ليس نعدو ما جعلت لنا.
قال: والله إني لأعرفكم بالفضل والخير، ولكن يبلغ عمر أني قد وليت نفرا من قومي، فيلومني في ذلك، ولست أحمل أن يلومني في قليل ولا كثير.
قالوا: فقد ولاك أبوعبيدة بن الجراح -وأنت منه في القرابة بحيث أنت- فأنفذ ذلك عمر، ولو وليتنا فبلغ ذلك عمر: أنفذه.
فقال عياض: إني لست عند عمر بن الخطاب كأبي عبيدة بن الجراح، وإنما أنفذ عمر عهدي على عمل لقول أبي عبيدة فيّ، وقد كنت مستورا عند أبي عبيدة، فقال فيّ، ولو علم مني ما أعلم من نفسي: ما ذكر ذلك عني.
فانصرف القوم لائمين لعياض بن غنم».
فرحم المولى سبحانه وتعالى سلفنا الصالحين، وأعاننا على حسن متابعتهم إنه خير معين.
اللهم حبب إلينا الحفظ والعلم والقوة والأمانة، وكرّه إلينا التضييع والجهالة والعجز والخيانة.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، اللهم وأصلح لنا ولاة الأمور.
اللهم ألهمهم الرشاد وحبب إليهم السداد، اللهم وفقهم لما فيه صلاح البلاد والعباد.
اللهم أنزل السكينة على هذا الوطن، وادفع عن ساكنيه جميع الفتن والمحن، ما ظهر من سوء الأحوال وما بطن.