سورة مكية افتتحت بقوله تعالى (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) وهنا اقترب صيغة مفاعلة أي قريب جدا، والخطاب لأهل مكة وللكافرين والمشركين.
وتحدثنا السورة عن غفلة أهل مكة، والرسول بين اظهرهم يدعوهم الى الله عز وجل، وهم في غفلة من الحسـاب معرضون عن الدعوة (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث الا استمعوه وهم يلعبون) وصاية الكافرين بعضهم لبعض فما ان يتلى القرآن إلا ويجتمعون الى اللعب واللهو (لاهية قلوبهم) وهذا حالهم، ولو حضر القلب لحضـر الجسد (وأسروا النجوى) قائلين فيما بينهم خفية (هل هذا إلا بشر مثلكم)؟ يعنون رســول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونـه نبيــا لأنه بشـر مثلهم، جعلــوا البشرية نقيصة، وهي في الحقيقــة بشرية كرامة لكل البشر.
ضلال الكفار
(قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم) السميع لأقوالكم ويعلم بخفاياكم (بل قالوا أضغاث أحلام) بل الانتقالية تفيد الانتقال في الافعال والأحوال، والضغث حزمة من الحشيش المتفرقة، وهذا اخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن وضلالاتهم.
ثم ينتقل الى حال أخرى من أقوالهم (بل هو شاعر) مرة يجعلونه سحرا وتارة يجعلونه شعرا وتارة يجعلونه مفترى.
(ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) من لم يؤمن يعاجله الله بالعقوبة اذا طلب أهل قرية آية ولم يؤمنوا بها فإن الله يستأصلهم (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي اليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ها هم اليهود والنصارى جيرانكم اسألوهم أكانت أنبياؤهم بشرا أم ملائكة؟ بل كانوا أجسادا يأكلون الطعام وهذه البشرية ليست نقيصة لهم، ولم يكتب الله الخلد لأحد منهم.
الدنيا دار عدم والآخرة دار عطاء
يبين الله تعالى سنته (ثم صدقناهم الوعد) صدقنا المرسلين فأنجيناهم جميعا ومن نشاء فصدقهم من صدقهم وكذبهم من كذبهم وان الله صدقهم ما وعدهم به من النجاة لهم ولأتباعهم وأهلك المكذبين لهم (وأهلكنا المسرفين) المكذبين للأنبياء (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) خطاب بنون العظمة وقد تفيد التحقيق، كتابا وقرآنا مبينا (فيه ذكركم) أي شرفكم وفخركم وهي صيغة تفيد التعظيم لهذا الكتاب، والذكر هو التذكير لما فيه الصلاح والخير وهو الشرف والرفعة، وصلاح امركم في هذا الكتاب فمن اعتز بغير الله ذل.
(أفلا تعقلون) من كان عنده ذرة من العقل يدرك بها المعارف من الخير ومن الشر ولو كان عقلكم سليما لسلكتم هذا السبيل.
قلوب غافلة
(وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) كم من صيغ التكثير والمبالغة، يقول الله تعالى محذرا هؤلاء الظالمين المكذبين للرسول بما فعل بالأمم المكذبة لغيره من الرسل كم أهلكنا بعذاب مستأصل لإعراضهم عن ذكر الله (وأنشأنا بعدها قوما آخرين) يقول الله تعالى واصفا هؤلاء لما أحسوا بعذاب الله وعقابه ضربوا الأرض بأرجلهم ندما وقلقا وتحسرا على ما فعلوا وهروبا من وقوعه، فقيل لهم تهكما بهم (لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون) كانوا أهل ترف، والاتراف زيادة النعمة فلم يؤدوا شكرها وكفروا بوليهم (لعلكم تسألون) غاية في التهكم.
الندم والإقرار
(قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم) في لحظة العذاب يدعو الانسان على نفسه بالثبور، اعترفوا بذنبهم واقـروا بظلـم أنفسهـم (حتى جعلناهم حصيدا خامدين) الحصيد الزرع المحصــود، يشبههم الله بمنزلـة النبـات الذي حصد وخمـدت منهــم الحركات، فاحذروا ان تستمـروا على تكذيـب اشرف الرسل فيحل بكـم كما حل بأولئك.
مهمة الإنسان
(وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) الله هو الحق ولله سنن في كونه لابد من العلم بها لينجو الانسان، اولها ان تعلم انك في هذه الارض صاحب مهمة ولم تخلق عبثا وان اي طريق تسلكه الى غير الله باطل واي رفعة ترجوها في الدنيا من دون الله زائلة واي علاقة تقيمها من غير حدود الله فهي منقطعة.
افتراءات عديدة
(لو أردنا أن نتخذ لهوا) على الفرض لو اردنا ان نتخذه من البشر أي من عندنا (إن كنا فاعلين) إن هنا تفيد النفي أي ما كنا فاعلين (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) الدمغ يكسر الشيء للدلالة على قوة الحق وضعف الباطل، والباطل، هالك، والله تعالى تكفل بإحقاق الحق وابطال الباطل فان الله ينزل من الحق والعلم والبيان ما يدمغه فيضمحل ويتبين لكل احد بطلانه (ولكم الويل) توعدهم بأعظم العذاب لهؤلاء الواصفين لجلاله بما لا يليق به من اتخاذ الولد والصاحبة ومن الانداد والشركاء والويل والندامة والخسران.
وصف عظيم
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المقربين في السموات العلى (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) أي لا يملون ولا يسأمون ولا يستحسرون من التعب والكلل فهؤلاء يعبدون الله بكل اقبال وكل حب ولا يتعبون من عبادته، هؤلاء لما اقبلوا على الله وعرفوا مقامه عظموه في عبادته.
(ام اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) سؤال تهكمي بمعنى النفي وهو غاية من العجز وعدم القدرة فهم لا يقدرون على نشرهم وحشرهم (فسبحان رب العرش) يدل على تمكّن الملك وعلى العلو، فينزه الله نفسه عن أقوالهم المفتراة.