د. وليد العلي
لو قدر أن من في الأرض كلهم قد خرجوا عن طاعة مليكهم مُستكبرين: فالذين عند الله سبحانه في السماء لا يسبقونه بالقول وهم بأمره مسبحين، كما قال الله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدونفإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون فصلت: ٣٧ و٣٨).
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون؛ وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله قال أبوذر: لودد أني كنت شجرة تعضد».
فكل من في السماوات السبع ومن في الارضين السبع هم عبيد في مملكته، لا يخرجون في شؤونهم عن ملكه ولا يستقلون بشيء دون تصرفه وقدرته، كما قال الله تعالى: (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (مريم:٩٣و٩٤).
فمالك السماوات والأرض ما خلق من فيهما باطلا، وحاشاه أن يترك أحدا منهم هملا فيكون فيهما عاطلا، فإن هذا من الظلم الذي تنزه الله تعالى عنه فلا يجوز بحال من الأحوال ان ينسب اليه، فالسعيد من أهل السماوات وأهل الأرض من رجع في أمره إليه وعول في شأنه عليه، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى انه قال: (يا عبادي؛ إني حرمت الظلم على نفسي؛ وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا.
يا عبادي؛ كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي؛ كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي؛ كلكم عار إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي: إنكم تخطئون بالليل والنهار؛ وأنا أغفر الذنوب جميعا؛ فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي؛ إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني؛ ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا.
يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي؛ إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) أخرجه مسلم.
فإذا استشعر العبد أنه مخاطب بهذا الخطاب الإلهي وأيقن بأن مولاه سبحانه يتكلم وينادي، فشنف سمعه بهذا الكلام الرباني وأطرق برأسه مقرا بأنه من جملة المخاطبين بقوله: (يا عبادي).
فإنه يناجي ربه بلسان حاله بهذا النجاء، ويدعوه بصدق بلسان مقاله بهذا الدعاء: اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من اعطى، أنت الملك لا شريك له، والفرد لا ند له، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم.
فحينئذ يمقت هذا العبد حاله، ويطالع عاقبته ويراقب مآله، ويعلم ان الله تعالى غني عنه مع شدة افتقاره وعظيم فاقته، فينكسر قلبه ويضطر بعدها إلى ستر الله سبحانه وجبروته.
* الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية