بقلم: يوسف عبدالرحمن
[email protected]
|
نحن نفتخر بقبائلنا وعوائلنا وأنسابنا، وهم كذلك، انه شعب اسكتلندا العريق الذي لا يقل عنا حماسة وفخرا بقبائلهم التي تمثلها «تنانير» ذات ألوان معينة مثل الاحمر والاخضر والازرق، والترتان، بالانجليزية tartan هي نوع من الاصواف الذي ابتدعه الاسكتلنديون واستخدمته جيوشهم الغازية والمدافعة، وصار اليوم هوية ثقافية في كل المناسبات مثلما هو ويليام والاس أحد ابرز فرسانهم الذي قاد الاسكتلنديين ضد انجلترا حتى مقتله، واختلفت حوله الآراء، البعض يراه بطلا ورمزا ضحى بحياته من اجل اسكتلندا، وبعضهم يعتبره مجرم حرب وهمجيا، لكن الواضح انه ممن ضحوا في سبيل بلادهم، ولهذا يعتبره الاسكتلنديون فارسهم الشجاع.
|
|
|
|
|
بعيدا عن متاهات السياسة وكوارث الحروب والقلق والحر الذي نعيشه الآن، ادعوكم لمرافقتي في رحلة الى اعماق اسكتلندا، وهي تحتل الثلث الشمالي من جزيرة بريطانيا العظمى وتحدها جنوبا انجلترا ويحدها شمالا بحر الشمال وغربا المحيط الاطلسي، لاستعراض «بانوراما» اللباس واثره على الناس هناك، وكيف وجدت هذه الأمة من الغرب تؤمن بما جاء به القرآن الكريم، متذكرا قوله تبارك وتعالى (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).
اذا قلنا ان «التنورة الرجالية» ليست للاسكتلنديين وحدهم، فهذا ايضا صحيح، فرجال ايرلندا يلبسون التنورة ورجال ويلز يلبسون الازار الاسكتلندي، وايضا بعض رجال النمسا، كما ان بعض الرجال في الهند واليمن يلبسون «وزره»، من الوزار وهو لباس خاص بالرجال، واليوم تفصل تفصيلا عند خياط ويكون بعضها اشبه ما يكون بالتنورة.
وفي بحثي عن مسمى «التنورة» وجدت أنه فارسي الأصل ومتداول في تركيا.
كلنا شاهدنا الأمير تشارلز وزوجته كاميلا اللذين يحملان لقب دوق ودوقة يرتديان التنانير الاسكتلندية الشهيرة خلال زياراتهما لاسكتلندا. وأعتقد تماما ان الأمير تشارلز ذكي جدا بلباسه التنورة لأنها رسالة للاسكتلنديين!
التنورة الاسكتلندية بألوانها ونقوشها المميزة ما كان لها ان تشتهر الا عندما لبسها الرجال بدل النساء، واليوم اصبحت هوية وتأكيدا للانتماء الوطني في اسكتلندا.
وعلينا أن نعرف أن ما يلبسه الأسكتلنديون ونسميه نحن «التنورة» هذا في أعرافهم لباس حرب.
التنورة .. رجالية
خلال جولتي الأخيرة في بريطانيا، تعرفت عن كثب على هذه التنورة الرجالية وكيف يعتز بها الرجال، بمعنى ادق ان هذه التنانير تمثل قبائل وعوائل مختبئة خلف ألوانها الحمراء والخضراء والزرقاء وفي ثنايا كل قطعة قماش اضافة الى «موسيقى القرب»، وهو شعارها الرمزي المرتبط بها.
والتنورة الاسكتلندية، وتسمى «الكيلت»، لها اصول واعراف عند خياطتها ونسجها بألوانهم الدالة على عراقة والتزام الاسر الاسكتلندية المختلفة بهذه التنانير التي تغطي الجسد من منطقة الخصر الى ما فوق الركبتين، وقطعتا القماش المتقاطعتان في الامام وتسمى المريلة، وهي منبسطة دون كسرات، بينما القطعة الملتفة حول الجانبين مع كسرات خلفية، وفي العادة لا يلبس الاسكتلندي تحتها ملابس داخلية، مثل اجدادنا بالوزره وكانوا يعيبون على من يلبس الصروال المكسر!
براءة اختراع
والتنورة الأسكتلندية تأكيدا على أصالة صناعتها، اصبحت لها اليوم براءة اختراع لكل من اشكالها وألوانها، ويوجد لها متحف خاص في ولاية كارولاينا في الولايات المتحدة الاميركية، ولهذا ترى كل اسكتلندي يعتز بهذه التنورة التي يعتبرها هوية وهي تميز كل عائلة ولا يؤدون رقصتهم المعروفة (الهايلاندرز) إلا بها، واثناء رقصهم يعرفون من حركة الجسد جودة خياطتها وتناغم الراقص مع الموسيقى وانسيابية لباس التنورة على جسده وهل من خيط هذه التنورة خبير أم «عليمي»؟
وللتميز تتميز التنورة الإيرلندية بانها من لون واحد فقط وغالبا ما يستخدم اللون الزعفراني الأصفر والأخضر غير ان تنانير الاسكتلنديين تنحصر في أربعة الوان فقط (الاحمر- الاخضر- الازرق- الكوكتيل).
تطوير التنورة
التنورة الاسكتلندية تطورت اليوم بفضل لمسات المصمم دي.سي دالغليش الذي أدخل الألوان الصناعية الباهتة على صناعة التنورة في العصر الحديث وحاول مزج الألوان كي تبدو وكأنها قديمة نتيجة عوامل الطبيعة مستخدما درجات لون الطبيعة بعد المعالجة، فالأخضر بلون الزيتون وهناك اليوم اكثر من 5000 لون مسجلة في كتبهم الرسمية وجميع قطع التارتان هي نتاج أربعة ألوان فقط وهذا يعني ان لدينا 20.000 نموذج تارتان انتجت من اربعة ألوان فقط وهناك مؤسسة رسمية مسجلة في سجلات السلطات الاسكتلندية للتارتانات تحتفظ بعينة من كل قطعة تحمل تتابع ألوان جديدة، ويذكر في معلوماتها عدد خيوطها وترتيبها حسب الألوان وحاليا هناك ما يزيد على 5000 قطعة تارتان مسجلة رسميا بعضها سجلت في القرن التاسع عشر، ويمكن شراء ما ترغب من التنانير عن طريق المراسلة ولا داعي لان تسافر الى اسكتلندا كما انني وجدت هناك الكثير من الكتب التي تخصصت في صناعة التنورة والعناية بها.
التنورة انتماء
لاحظت ان كثيرا من رجال السياسة والشخصيات العامة في حضور المؤتمرات والمناسبات يلبسون هذه التنورة للتعبير عن وطنيتهم واعتزازهم بالتنورة وللتأكيد على انتمائهم لاسكتلندا، وبمعنى أدق رسالة موجهة الى الإنجليز بأن 300 سنة من الاتحاد لا تعني ابدا ان نفرط في موروثنا التاريخي، مع علمنا أن الوحدة الإنجليزية ـ الاسكتلندية (زواج عقل) أملته مصلحة براغماتية، ووعدتكم بعدم الحديث في السياسة.. لهذا سأصمت!
رسالة اسكتلندية للتاج البريطاني
بريطانيا العظمى التي توحدت منذ 1750 حتى 1980 علاقة مستقرة ثم بدأت مرحلة الخلافات والاستفتاءات لتبدأ معركة تغيير حول معنى الهوية والدولة الحديثة متعددة الثقافات، ولهذا حرص بعض الاسكتلنديين على الذهاب لابسا التنورة ورغم ان كبار السن صوتوا برفض الانفصال إلا ان الشباب العاشق للتنورة سيعاود المغامرة في حراكه القادم في وقت قريب. وتذكرت مقالة كتبتها الزميلة خلود الخميس في عام 2014 بعنوان scottish.. عيال بطنها! واتفق معها اليوم حيث أشارت الى الصراع الاسكتلندي مع التاج البريطاني وعقدت مقارنات في قضايا تداول السلطة السلمي والوحدة التي تحسمها صناديق التصويت والاقتتال الدائر عندنا باسم الربيع العربي.. «وقد صدقت»، وانا اضيف ان ادنبرة وغلاسكو بحاجة الى رحلات دولية لأن القادم الى بريطانيا يجب عليه ان يحط اولا في مطارات انجلترا! هذه واحدة من نقاط الاختلاف! والقادم أمر في الحراك السياسي.
نسل الفراعنة
هناك كتابات تاريخية ومراجع قديمة تؤكد معلومات تشير الى ان الفراعنة هجروا او نفوا مجاميع فرعونية في أحقاب سحيقة لتختلط مع الأقوام التي كانت تعيش في العصر الحجري الحديث، ومارسوا الزراعة في أجزاء متفرقة من اسكتلندا خلال القرنين الثامن والتاسع قبل الميلاد، وهذا ما تؤكده هياكل عظمية ووثائق يونانية، كما ان المؤرخ الاسكتلندي والتر باور اشار الى هذا الجانب، وانا عندما رأيت قلاعهم العملاقة تذكرت الفراعنة، انها حكاية قرون من التاريخ، ولا أعرف حقيقة الامر حتى أكون صادقاً.
حوار مع ريموند
في مهرجان أدنبرة الذي حضرته والذي بدأ يوم 5 أغسطس وسينتهي يوم 28 أغسطس قلت للسيد ريموند الاسكتلندي (بالمناسبة هم شعب لطيف وحلو المعشر) والذي يعزف القرب من ساحة السنتر المخصصة للمناسبات، ألا يتعبك هذا النفخ واللباس القصير في البرد (قاصدا تنورته)؟ فقال: يا سيدي أنا مهنتي اليوم عازف في المناسبات والحفلات وحتى الأعراس وأعزف (أداة القرب) منذ طفولتي، كانت هواية وأصبحت اليوم مصدر رزقي، اكثر من 25 عاما وأنا أجوب الساحات والاحتفالات مشاركا لأكسب رزقي، وحقيقة الأمر لا يهمني حجم الدخل سوى أنني أمارس شيئا أحبه وأحترم بلدي وكل لون من التنانير يمثل أسرة ومدينة وقبيلة، وأسلوب نسخ التنورة يمثل أصول العائلة وكانت في السابق تلبس لتأدية الرقصات الجميلة التقليدية أما اليوم فتغير الحال وأصبحت التنورة تمثل عائلات ومقاطعات وحتى مدناً وجامعات ومدارس، انه الزمن لكن أؤكد على أن كل اسكتلندي يعتز بهذه التنورة وأنا أعلم أنكم تضحكون لأن لباسها منحصر في النساء، لكنها هنا اعتزاز اسكتلندي وهوية وتأكيد انتمائنا لأرض الجبال الخضراء ومجتمعنا الاسكتلندي العريق، ونحن أمة نعتز بأصولنا الكاليدونية وتنطق باللاتينية القديمة (caledonia) وليست لنا علاقة بكاليدونيا الجديدة نحن أمة الاسكتلنديين منذ فجر التاريخ ونحن امة محاربة لأن المحيط بنا أمم طامعة حينذاك.
|
يبقى عربياً
في مطعم عربي في غلاسكو سألت اخانا (عبدول) مختصرا من عبدالناصر (لبناني الجنسية) عما إذا كان فكر أو لبس هذه التنورة في المناسبات بعد ان حصل على الجنسية فضحك وأغمض عينيه وعرق وقال: لا خي ما بعرف، صعب ما أقدر ورغم وجود أكثر من 40 ألف عربي إلا أنني لم أجد عربيا واحدا يلبس هذه التنورة الا السياح القادمين من الخارج، وبعضهم يحرص على شرائها ليذهب بها الى بلده وربما يلبسها في مناسبة خاصة لديه، وانا شخصيا اتمنى ان ارى الزميل حسن الصايغ بها لأنها مفصلة تماما على جسده.
وايضا أخانا العزيز عبدالرحمن الكندري (أبا الحارث) عليه أن يحمل «القربة».
هدايا
لاحظت أن كثيرا من السياح يشترون المعاطف والبنطلونات والقمصان التي ألوانها الأحمر، الأخضر والأزرق، وهي مشتقة من ألوان التنانير وكل ما هو مصنوع من هذه (الألوان التنانيرية) وأصبح الزي الاسكتلندي من أزياء الموضة وعليه طلب كبير خاصة المعاطف، تذكرت ـ والله ـ المدرسات الفلسطينيات والمصريات في السبعينيات وأوائل الثمانينيات كن يلبسن هذه التنانير الاسكتلندية عندنا في الكويت ولكنها اندثرت مع الزمن وبقيت حية ومتوارثة عند أهلها في اسكتلندا جيلا بعد جيل، فالتنانير ليست قطعة قماش، انه ارث وطني مقدس لا يمس، ويبقى السؤال: لماذا ارادت اسكتلندا الانفصال؟ ولماذا لم تنفصل؟
300 عام من الوحدة، لمَ الانفصال عن التاج البريطاني؟ ولمَ العداء رغم الاتحاد؟ ربما أعود إليكم بهذا التقرير ان شاء الله.