تونس ـ محمد بسام الحسيني
إلى تونس الخضراء.. وردة البلدان، حملتنا أجنحة السفر مع فريق باب للرحلات، فتنقلنا في أرجائها مستمتعين بجمال الحاضر وعبق التاريخ في بلد وهبه الله أجمل طبيعة، فتسابقت إليه الحضارات، وتلاقت فوق أرضه الثقافات، وأعطى اسمه القديم «أفريقيا» إلى القارة السمراء.
تجمع تونس جمال الأرض وجمال الشعب، وتشتهر بكونها بلد الزيتون الأجود عالميا، والذي ينتشر على مساحات واسعة منها، فضلا عن واحات جنوبها الغني بالنخيل، حيث البيئة الصحراوية الخلابة وشمالها الغربي الذي يعد خزانا لزراعة الحبوب، وسواحلها الساحرة التي يفتن بها كل من يزورها.
بداية الوصول كانت عبر مطار قرطاج الدولي، ثم توجهنا الى منتجع «فورسيزونز» المُفتتح حديثا في «قمّرت» منطقة الفنادق الفاخرة والمجاورة لمنطقتي المرسى وسيدي بوسعيد السياحيتين.
أولى جولاتنا كانت في منطقة سيدي بوسعيد الشهــيرة ببيوتهــــــا البيضاء والزرقاء وأزقتها واطلالتها الرائعة على البحر، والتي عادة ما يقارنها السياح بجزيرة «سانتوريني» الخلابة في اليونان، من أجمل المحطات فيها زيارة قصر «البارون ديرلانجي» الذي يحمل اسم «النجمة الزهراء»، وإلى جانب تميزه المعماري يحوي مركز الموسيقى العربية والمتوسطية، وفيه أدوات نادرة جدا.
من سيدي بوسعيد انتقلنا إلى قرطاج، حيث أطلال واحدة من أشهر المدن الفينيقية ـ الرومانية، فتجولنا فيها وزرنا مسرحها الشهير الذي يحتضن سنويا مهرجان قرطاج الدولي وكبار رموز الفن العالمي، كما زرنا متحف الموقع وفيه أعمال مهمة منها فسيفساء «سيدة قرطاج».
وبعد قرطاج كان الموعد مع تونس العتيقة مرورا ببحيرة تونس باتجاه شارع الحبيب بورقيبة الذي يُعرف بـ «شانزليزيه تونس» نظرا للتشابه الكبير بينه وبين الجادة الفرنسية الشهيرة.
ومن بين معالمه، الى جانب المباني الرسمية والتجارية المهمة والمسرح الوطني، تمثال «ابن خلدون» مؤسس علم الاجتماع، يقف ابن خلدون حارسا على بعد مئات الأمتار من «باب البحر» الذي يقودك باتجاه الشوارع والأسواق القديمة (الشارع الضيق يسمى بـ «النهج» في تونس).
وداخل المدينة العتيقة ينتظرك جامع الزيتونة المعمور والذي سمي بـ «المعمور» كون الصلاة فيه لم تقطع منذ ان تأسس في نهاية القرن السابع عشر الى اليوم، حتى في أحلك ظروف الاحتلال والتضييق على المصلين.
وبعدها كانت زيارة متحف «باردو» الشهير، حيث اجمل القطع والاعمال الفنية التاريخية وبينها فسيفساء الشاعر الروماني «فرجيل» مع ربة فن الشعر والبلاغة «كليو» وربة فن التمثيل الإيمائي «ملبوميني».
إلى الشمال الغربي
من تونس العاصمة انطلقنا برا الى طبرقة في الشمال الغربي على الحدود مع الجزائر، وهي مدينة ساحلية هادئة بتلالها ومطلاتها البحرية وخلجانها الى جانب «الحصن الجنوي»، وهو حصن مراقبة يعود الى القرن السادس عشر سلمته السلطنة العثمانية الى جمهورية جنوى الإيطالية مقابل افتداء القائد البحري دارغوث باشا، وبقي تحت الإدارة الجنوية لقرنين تقريبا.
في الطريق الى طبرقة التي تشتهر أيضا بمطاعمها البحرية والمرجان ومهرجان الجاز في الصيف، كانت رحلة المرور عبر الحقول والمراعي الخصبة وتأمل الجمال الطبيعي لمواقع ساحرة مثل «عين دراهم» و«دڤة» التي تحتضن آثار مدينة رومانية متكاملة الى حد رائع وتُعتبر الأثر الروماني الأكثر اكتمالا اليوم في شمال أفريقيا وأدرجت على قائمة اليونسكو للتراث العالمي في 1997.
تقع «دڤة» في موقع جغرافي بديع مع «اكروپول» او معبد للثالوث الإلهي للمدينة لايزال قائما ومسرح يتسع لثلاثة آلاف متفرج وأحياء سكنية وحمامات عامة.
وبعد زيارة «دڤة» توجهنا إلى مدينة رومانية أخرى هي «پيلاريجيا» تعود للقرن الخامس قبل الميلاد، نشأت في فترة النوميديين وأخضعتها روما في 46 ق.م، تتميز بوجود مسرح مبني على ارض منبسطة بقواعد هندسية رائعة وبوجود منزلين فخمين «تحت الأرض» ولا يزالان يحتفظان بصورتهما الأصلية الى حد كبير، ما يجعل الزائر يعيش تجربة دخول منزل روماني بني قبل نحو ألفي سنة ويشاهد مقتنيات العمارة والإضاءة وغرف النوم والطعام وتزيين الأرض والجدران بالفسيفساء.
تجدر الإشارة إلى أنه وقبل منح جميع رعايا الإمبراطورية الرومانية جنسيتها، كان سكان المدن الأثرياء في الولايات والأقاليم التابعة يتبرعون بإنشاء مسارح ومبان وحمامات مقابل «الرومنة» أو الحصول على الجنسية الرومانية، وقد بُنيت أجزاء ومعالم مهمة من مدينتي «دڤة» و«پيلاريجيا» بهذه الطريقة.
قبل بلوغ «طبرقة» ايضا كانت زيارة لمدينة «تستور» وجامعها الكبير ذي الطابع الأندلسي، فهي مدينة الأندلسيين الموريسكيــين الذين جاءوا إلى المدينة في القرن الـ 17 بعد قرار طردهم، وهي مدينة تحتوي على سوق للحرفيين بعضها ينسج الأزياء التقليدية مثل الجبة والبرنوس.
وسط البلاد
بعد الجولة في الشمال الغربي، كانت الوجهة نحو وسط البلد، حيث مدينة القيروان التاريخية، تعد القيروان اول مدينة اسلامية تأسست في المغرب العربي سنة 670م، وهي مدرجة على قائمة «اليونيسكو» للتراث العالمي، وقد اعتمدت على غرار بغداد عاصمة العباسيين شكلا مستديرا يحتل مركزه الجامع الكبير الذي أقامه عقبة بن نافع، ومنه تنطلق الشوارع الكبرى على شكل أشعة، وتنتشر فيها المحلات التراثية التي تقدم أجود الصناعات الحرفية والسجاد، وكذلك بئر بروطة التي تدور حولها الحكايا الشعبية، وكان يعتقد قديما أنها متصلة ببئر زمزم.
ويتميز الجامع بمئذنة هرمية الشكل وهي النموذج الأصل لكل المآذن في المغرب الإسلامي.
والى جانب الجامع، هناك أيضا جامع الصحابي أبي زمعة البلوي وهو من المقامات التاريخية الجاذبة ايضا، ومسجد «ابن خيرون» الذي يعود الى 866م، واشتهر باسم «جامع الأبواب الثلاثة»، وكذلك أحواض «الأغالبة» التي تعتبر بمناسباتها المهيبة من أكبر المنشآت المائية التي كانت تستخدم لسقي القوافل وأدرجت أيضا على قائمة «اليونيسكو».
بعد القيروان، توجهنا الى سوسة وفي الطريق توقفنا عند واحد من أروع الإنجازات المعمارية في التاريخ الإنساني «كولوسيوم» (الجم) بمنطقة المهدية الذي يتشابه الى حد كبير مع «كولوسيوم» روما.
في عهد الامبراطورية الرومانية كانت العقوبة القصوى تتركز على 3 خيارات، إما إرسال المحكومين للعمل في المناجم أو المقالع او الى حلبات مصارعة الحيوانات كما كان يحصل في مسرح «الجم».
ويعد «الجم» بشكله البيضاوي من افخم المعالم في شمال افريقيا.
يبلغ طول محوره الكبير 149م ومحوره الصغير 124م.
وارتفاعه 35م اما محيطه فيبلغ 427م.
يستــوعب المسرح جمــاهير تقـدر بـ 30 ألفا في حين يتسع مســرح روما (محيطه 527م) لـ 43 ألفا.
كانت الجماهير تتوافد إليه لمشاهدة الصراع بين المحكومين أو المقاتلين مع الحيوانات المفترسة التي يؤتى بها من غابات تونس وأفريقيا ومنها الأسود، وتستمتع بالجلوس على المدارج الرخامية المنضدة على 5 طوابق وهي تشاهد الصراع الدموي الذي كان أحد أبرز طقوس روما الوثنية وتراجع مع مجيء المسيحية ثم في العهد البيزنطي.
سوسة والمنستير
استمرت الجولة التونسية ومفاجآتها بالاستمتاع بزيارة مدينة «سوسة» الساحلية، درة الساحل التونسي والتي تشتهر بفنادقها ومطاعمها وبمرسى اليخوت الكبرى في القنطاوي التي يمكن الانطلاق بها في رحلة بحرية حول المدينة.
وبجوار سوسة تقع مدينة المنستير التي يقع فيها رباط المنستير داخل قصبة حصينة ويعود تاريخه إلى 796م والذي يقدم اطلالة تحبس الأنفس على البحر والمدينة وضريح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة المحاذي له.
يحتوي الرباط ايضا على متحف خاص بالفن الإسلامي.
لن تكتشف تونس «المزيانة» كما يلقبها أبناؤها في 10 أيام، فهذا البلد يزخر بالتنوع والغنى الطبيعي والتاريخي والحضاري ما يجعل منه محطة دائما على رأس قائمة الأماكن المفضلة للزيارة.
أثرت الاحداث المرافقة لثورة 14 يناير 2011 وما تلاها من اضطرابات سياسية على الجانبين الأمني والسياحي في تونس.. لكن يمكن القول إن البلد تعافى الى حد كبير وشيئا فشيئا يستعيد نشاطه وحيويته السياحية مع عودة ملايين السياح في كل المجالات السياحية للاستجمام والترفيه والعلاج وزيارة المواقع التاريخية والطبيعية وبأسعار مناسبة جدا وتنافسية، وتنتظر تونس زوارها الذين تستقبلهم بكل ما أوتيت من ترحاب ومحبة وجمال... ولعلّ أجمل ما يميز هذا البلد أنه من المحطات التي تتعلق بها وفيه دائما ثمة ما يدعوك للعودة والزيارة مرات ومرات.