في مقالتي الأخيرة وضعت قلمي على مشاهد مؤلمة من مجتمعنا في التعامل مع الآباء والأمهات وعلى سلوكيات فظة وممارسات قاتمة في نكران جميلهم ونسيان فضلهم، والإمعان في عقوبتهم بعد أن بلغوا من الكبر عتيا، فكان لما كتبته صدى كبير ووقع عظيم عند الكثيرين، ما دعاني إلى أن أنصف الغالبية العظمى من مجتمعنا الذي أفرز نماذج رائعة وصورا مشرقة في فلسفة بر الوالدين والتعامل معهما، بل في عموم التعايش مع كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة.
فرغم زخم الحياة المعاصرة والأجهزة الذكية والعكوف على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسط المتغيرات وزحمة الملهيات والفضائيات رأينا نماذج صارخة في البر والإحسان، ومشاهد حية تثلج الصدر لتقدير الوالدين وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، وما ذلك إلا بسبب مع ما نعيشه من مناخ إيجابي مواتٍ تنتشر فيه حلقات تحفيظ القرآن ومجالس العلم ويعج بالبرامج الهادفة في إذاعة القرآن ورسائل الوعظ والتذكير التي نتناقلها والتي لها أبلغ الأثر في تقويم السلوك وتعديل أي اعوجاج.
يتناقلون في المجالس والدواوين وغيرها قصص من هذا القبيل، من جملة ذلك ما يتحدثون عن ابن مخلص في بر والده وفي العناية بجسده تنظيفا وتدليكا وتطييبا مترفقا به ومرفها له لساعتين أو ثلاث، لم يسند هذه الخدمة لخادم، بل أصبح شغله الشاغل، يتولاه بنفسه لأنه يرى فيه شرفا بالغا وأجرا عظيما.
وليس أكثر مما نراه دائما من طلة بهية لولد مع والده يطوف به مجالس دواوين الكويت رافعا به رأسه ولسان حاله يقول: إنه أبي سبب وجودي ومصدر فخري واعتزازي.
وهناك من يذهب بوالده للمسجد سائر أوقات الصلاة ممسكا بيده ومتقبلا بطء حركته محتسبا الأجر وجزيل الثواب، ولم يرض أن يحمل شرف هذه المهمة سائق أو خادم.
وإن لم تكن رأيت بأم عينك فلا بد أنك سمعت الكثير من القصص عمن يأتي بأبيه أو أمه من أقاصي الأرض يحمله أو يحملها على ظهره في طواف حج أو عمرة وسعيهما ورميهما وسائر مناسكهما، فلنعم الظهر ظهرك أيها البار ولنعم البر برك.
لم يكن مخجلا لابن بلغ السبعين من العمر أن يخدم والدته الطاعنة في السن بنفسه ممحصا لاحتياجاتها متفحصا لرغباتها ملبيا لها، رغم ما وهب الله هذا السبعيني من أبناء بررة قادرين على أن يرفعوا هذا العبء عنه.
ولن أفوت ما تبقى من هذه السطور لأسرد مناقب جميلة لآباء وأمهات تحملوا المشاق والصعاب في رعاية ابن معاق أو ابنة معاقة، فغمروا ابنهم أو ابنتهم بالحنان والإحسان والدعم النفسي والتشجيع المعنوي، وأصبح المعاق من نسلهم عنصرا أساسيا في نسق الأسرة الصغيرة، وعضوا فاعلا في الحل والترحال بل إنهم يرون فيه ضيف شرف من الله له حقوقه وواجباته، في معان سامية لا تستوعبها المقالات والكتب.
أحد أصدقائي من الدائرة الضيقة له اسم مرموق في عالم الاقتصاد، ابتلي بولد معاق، فلم يخجل من خدمته وحمله على ظهره بين الناس وهو رافعا رأسه مبتهجا بهذا الباب من الخير، ونجح في تحويل إعاقة ابنه إلى نعمة يستدر منها الصبر والأجر ورضا الله في الدنيا والآخرة.
كلمة الختام: احمدوا الله على ما نشاهده من هذه المفاهيم الأخلاقية في مجتمعنا، ومن الطراز الراقي في بر الوالدين وبرهما والصبر عليهما، وكذلك تقدير كبار السن والعجزة وأصحاب الإعاقة والتوحد، ولا أعتبر ذلك إلا واحدا من مؤشرات الخيرية والأخلاق في وطننا ومجتمعنا، وجدير بهذه الثقافة الراقية والنماذج الرائعة أن تنتشر وأن تكون غرسا في الأطفال ونبراسا للأجيال.
إلى كل بار بأبيه ووفي لأمه وحنون على من يعول من معاق أو معاقة.. والله ما كتبت هذه المقالة إلا لأرفع لكم القبعة وأكيل لكم الثناء والشكر والاحترام والتقدير الذي تستحقونه.. وما عند الله خير وأبقى.
[email protected]