جاسم بن همام، شاعر الانسانية، وسفير النوايا الحسنة، والفارس النبيل, شاعر لم يغفل يوما عن قضايا أمته ومجتمعه، كتب في العديد من أغراض الشعر، كان أهمها ما يرتبط بالجانب الانساني، ولذا فقد حصد كل الألقاب السابقة من قبل جماهير الشعر والمهتمين به، وهنا سنتوقف مع آخر انتاجاته الشعرية قصيدة «تجاعيد» وهي تتحدث عن جانب من الإنسانية النبيلة، غفل عنها الكثير، إلا أنه لم يغفل عنها.
كيف لهذا الرجل ان يقنع بالحياة وهو لايمتلك إلا القليل منها.
لماذا اختار الشاعر الخطابة قبل الشعر وهو الاقدم؟
البحث من الناحية العاطفية والشعرية والانفعالات النفسية.
أطرش.. كفيف.. أبكم.. شعوره يقدميه
علمني أسلوب الحكي.. والخطابة
«أطرش - كفيف – أبكم» جمعها الشاعر في شخص واحد ذكرني بالقضاة الثلاثة أو الحكماء الثلاثة «لا اسمع لا أتكلم لا أرى» أهم عناصر الحياة اذا فقدها الانسان فإنه لايشعر بإنسانيته.
فكان سر الجمال كامن في بقية الشطر الثاني حيث التناقض اضفى الجمال على البيت فكيف لرجل فاقد تلك الحواس يعلمه الكلام، بل الخطابة أرقى أنواع الكلام الفن الذي يحتاج الى بلاغة لغوية وأسلوب راق حتى تصل الى المتلقي.. والخطابة لها أسلوب خاص في كتابتها والقائها.
قبضة عصاته.. هم رعشة أياديه..
منها.. تعلمت الشعر.. والكتاهة
بعد أن دله الى بلاغة اللغة «الخطابة» عاد ليعلمه الشعر والكتابة ولكن لماذا اختار الشاعر الخطابة في البيت الأول ومن ثم قال الشعر مع ان الشعر أقدم من الخطابة؟
هل الشاعر يحاول هنا أن يطبق الحداثة حيث تستلزم الحداثة جزالة المفردة والثقافة العميقة لذلك تعلم في الرواية لأسلوب الكلام وفن الخطابة، وبعد ذلك مارس تعلمه للشعر والكتابة، ولماذا الكتابة هل ليحافظ عليها من الاندثار والضياع؟
جالس بعيد هناك محد يسليه
غير الظلام ووحدته والكآبه
»الظلام/ وحدته/ الكآبة» هؤلاء الثلاثة يتفقون في الظاهر في عملية التسلية وفي الباطن هم مصادر الألم الواحد أو الطعنات الواحدة وقد حدد الشاعر لكل مفردة كمية الألم أو حدود الألم.
بيت.. عتيق وسدرة البيت ماضيه
جنب الجدار المهترى عند بابه
قبل ان استوفي حديثي لنرسم ملامح ذلك الرجل الذي يتحدث عنه الشاعر فالأبيات التالية كلها وصف له..
رجل كبير في السن كفيف أبكم أطرش يتوكأ على عصاته وحيد رسم الزمن، تجاعيد الكآبة والفقر على وجهه، يستند جدار بيت قديم قد ازال الزمن بعض ملامحه، وهذا البيت القديم يتوسطه شجرة السدرة «شكل المنزل أو البيت في السابق، كانت البيوت عبارة عن غرف متلاصقة أمامها مساحة تسمى بالليوان وفي منتصف البيت تكون عادة سدرة أو نخلة».
هذه صورة بسيطة حاولت ان ارسمها كما رسمها الشاعر وذلك في محاولة مني لايصال الفكرة أو الصورة بشكل واضح..
البيت القديم هذا يدل على ارتباطه بوطنه او دلالة على الزمن او الدنيا سدرة، هو الأمل أو الحلم لذلك الأعمى اختيار الشاعر هنا لسدرة هذه الشجرة المخضرة صيفا وشتاء تنبت دون أن تزرعها بالذات في البيئة القطرية التي هي بيئة الشاعر حيث ان هذه الشجرة لا تحتاج الى الماء الكثير ولا تجف صورة السدرة إيحاء لقلب ذلك الرجل النابض ورمزا على ماضيه قلبه النابض بقناعة الحب والمعروف ان السدرة تزرع في وسط البيت كقلب الإنسان متفرعة هذه الشجرة.
الليل والصمت ورضاه ورجاويه
عصابة تحصد غنايم عصابه
(الليل والصمت) هناك رابط بين الاثنين وهو برود الكلمة والستار لو لاحظت ان الليل دائما ما يكون باردا والصامت دائما ما يكون هادئا بطيء الحركة تشعر ببرود في انفعالاته. فالصمت أحيانا يجعل صاحبه ساكنا كالنسمة الباردة لا تشعر بحركته كما هو الحال بالليل أيضا البرود والستار علميا تنخفض درجة الحرارة ليلا فيكون الجو ألطف من النهار وظلام هذا الليل الذي حجب الرؤية اضاف اليه نوعا من الخصوصية «ورضاه ورجاويه» هناك تناقض أو اصطدام واضح حيث انه يحمل بداخله قناعة كامنة بكل ما هو عليه إلا أن الأمل برؤية الشمس وملامسته للأشياء بالنظر اليها تراوده.
(الليل والصمت) «رضاه ورجاويه» كل منهما كون مجموعة فالليل والصمت كونا عصابة كما ذكرها الشاعر «رضاه ورجاويه» عصابة ولكن بداخلهما حرب نفسية عنيفة فكل عصابة أو مجموعة تود ان تفتك بالأخرى، وتجني الغنائم أو النتائج قد يكون تركيب البيت للقارئ من الوهلة الأولى عادية جدا، ولكن عندما نتعمق ونحاول ان نكون ذلك الاعمى الذي احاطته الدنيا بالتعاسة من كل جهة، وخضع للقناعة بما هو عليه، تكون الصورة اوضح بكثير مما كتبت.
كن التعاسة غنوة من أغانيه
غريب مدري كيف قضى شبابه
هنــا تســاؤل وتعجب في آن واحد، بعد كل السنوات التي مضت لو حاولنا تخيل أو إعادة شريط حياته بسرعة أمامنا.. كيف تكون حياته؟ وكيف عايشها؟ كيف كانت طفولته؟ كيف تقبل الحياة دون يأس؟ كيف قضى مراهقته وشبابه؟ كيف فرغ طاقته؟ «كيف» علامة الاستفهام التي تصدرت جميع الأسئلة التي تدور في ذهن؟.
مدري وش اللي حققه من امانيه
أحس بأن أيام عمره تشابه
تكملة للبيت الذي قبله بل اجابة للسؤال الذي يحير الشاعر في محاولة، الشاعر رسم صورة لحياته فلم يجد فيها سوى التشابه المميت في أيامه لا إثارة لا مغامرة أو أي شيء من ذلك هدوء يسكنه لأبعد الحدود.
أشعت غبر أصفر تلعثم خطاويه
تحكي تجاعيده سنين اغترابه
من هنا يبدأ بوصف هذا الرجل وصفا دقيقا، وصف جسدي ونفسي في آن واحد، فرتب الأبيات على أن تكون مرة وصفا جسديا ومرة وصفا نفسيا أو حسيا وذلك حتى يجعلك تعايشيه أكثر فأكثر.
عندما يشبهه بالصحراء القاحلة الخالية من أي أثر للحياة فيها يكون هو أشبه بذلك الذي ينتظر السراب ليصل إليه ويرتوي «منه أي يحلم بأنه شرب من سرابه«فقد خانته الظروف وجعلته عاجزا عن أن يستمتع بحياته ويكون طبيعيا كبقية البشر ولو لدقائق لا بل كان حلم هذا الرجل أبسط من ذلك بكثير كان يتمنى أن يستمتع بحياته في أحلامه.
فيه الألم وأقول وش عاد ما فيه
نـاحل مثل قـوس النبل والربابة
أبطت عيوني تستمع له تحاكيه
واقف يجر أخطاه ضعف وصلابه
فمازالت مشاهد الوصف الجسدي والحسي هنا مرتبة ومعبرة.
تضحك دموعه بالعيون ويداريه
ما بين ذله مع شموخه مهابه
هنا حاول الشاعر أن يجعل الدموع ضاحكة، لكي لا يرسمها حزينة كما هو الحزن في عيون ذلك الرجل، بل أكد على أن المهابة التي بدا عليها المسن، كانت توحي بأن تلك الدموع ما هي إلا ضاحكة فقط.
بعض الصبر لو ينشرى منه لا أشريه
راضي.. بلاه إن الزمن ما رضى به
بالرغم من المعاناة التي يعيشها هذا الرجل الطاعن في السن إلا أنه يمتلك طاقة كبيرة في الصبر والتحمل لدرجة أن الشاعر تمنى الحصول عليها وإن كان ذلك بثمن، وبالرغم من أن هذا المسن رضي بما قسمه الله له، إلا أن الزمن لا يرضى بمثله أبدا.
بعده.. دريت أن الزمن تيه في تيه
وإن السكوت أرقى معاني الإجابة
هنا يكتشف الشاعر أن هذا الزمن ضائع، وأن كل الاستفسارات وعلامات الاستفهام التي طرحها الشاعر لم تكن في محلها، وآن له أن يصمت، ويطبق شفاه عن الاسئلة، لأن ذلك هو أرقى معاني الإجابة.
الصلة بين الشاعر والنص والبيئة والزمان
هذه النقطة جدا حساسة لدى الشاعر القطري أو بالأحرى مميزة لديه فالشاعر سابقا تجده إما بدويا يكتب المفردة البدوية التي تدل عليها بيئته أو حضريا فيكتب المفردة التي تدل على بيئته البحرية ولكن ما تميز به الشاعر القطري الحديث أنه دمج البيئتين في بيئة واحدة.
«بيت عتيق- سدرة البيت»
تدل على البيئة الحضرية فأهل الحضر سكنوا بيوتا واستقروا وتميزت منازلهم بالسدرة التي توسطت تلك المنازل.
«أشعث أغبر أصفر» تلك صفات تدل على هيئة البدوي، وقد اقتبسه الشاعر من حديث رسولنا الكريم عن الأعرابي.
دراسة الأساليب
تتضمن القصيدة وصفا بارعا لمعطيات البلاغة وأنها مملوءة بالصور الطباقية والجناسية والتشبيه ولذلك فهي غنية بالتخيل فقد استطاع الشاعر أن يرسم لنا صورة واضحة الملامح يراها كل من يقرؤها باستخدامه لغة بيضاء في الكتابة فلم يستخدم أسلوب التعقيد والغموض بل كان رائعا في لغته القريبة من القلب.
أما من ناحية القافية فقد اعتاد الشاعر الكتابة على هذا النوع من القافية بالذات فقد تجد أغلب قصائده بالختمات نفسها.
فمن الصور البيانية
القصيدة كاملة تحمل الكثير من التشبيهات والصور.
«عصابة تحصد غنايم عصابه» «تحكي تجاعيد سنين اغترابه»
«خانه مطر عمرالصبا والسحابة» «تضحك عيوني دموعه«
ختاماً
المهم فيما سبق الكيفية التي عبر بها الشاعر عن عواطفه وأحاسيسه وكيف يدمج انفعالاته بمشاعره بحيث تتوزع في نسيج النص الذي يكتبه لو نظرت إلى القصيدة لوجدنا الشاعر يعبر عن نفسه وما بداخله من ألم وتعاسة عكسها على قصيدته وذلك بسعادة هذا العجوز البائس بالرغم من أنه كفيف وأطرش وأعمى فكيف له أن يكون قانعا بهذه الحياة وهو لا يمتلك إلا أقل من القليل وحتى هذا القليل لا يملكه أصلا وهو وصفه بالأرض الجرداء أو الأرض التي تجهل المطر.
شاعرنا هنا أظهر ضعفا إنسانيا واضحا في قصيدته حينما يصف حال هذا الكفيف وفقره وعجزه وغلبة الدنيا عليه.
تجاعيد
(1)
أولد وحيدا، وأعيش وحيدا، وأهش الذباب عن كسرة خبزي وحيدا، واستنشق الغبار وحيدا، وسأموت وحيدا. وحتى ذلك الحين.. سأبحث عن ضوء يبصرني..
وآلة أعزف عليها لحنا منفردا جديدا
تجاعيد
(2)
أطرش.. كفيف.. أبكم.. شعوره يقديه
علمني أسلـوب الحكي.. والخطابه
قبضة عصاته.. هـم رعشة أيـاديه..
مـنـها.. تعـلـمت الشعر.. والـكـتابـه
جـالـس بعـيـد هناك.. مـحـد يسليه
غـيـر الظـلام.. ووحـدتـه.. والـكـآبه
بيت عتيق.. وسدرة البيت.. ماضيه
جـنـب الجدار المهتري عـنـد بـابـه
اللـيـل والصمت.. ورضـاه ورجاويه
عـصـابـة.. تحـصـد غـنـايـم عصابه
كـن التـعـاسه غـنـوة.. مـن أغـانيه
غريب.. مدري كيف قضى شبابه؟؟
مدي وش اللي حققه مـن أمانـيه
أحـس بـأن.. أيـام...عـمـره تـشابـه
أشعث.. غبر.. أصفر.. تلعثم خطاويه
تـحـكي تجـاعـيـده سنـين اغـتـرابه
مـا يشبـهـه.. غـيـر الظما بالمهاميه
خانه مطر عـمـر الصـبـا.. والسحابه
فيه الألم.. وأقـول: وش عـاد مـا فيه
ناحل.. مـثـل قـوس النبل.. والربـابـه
أبطت عيوني تستمتع لـه.. تحـاكـيـه
واقف يجر أخطاه ضـعـف.. وصـلابـه
تضحك دمـوعه بالعـيـون.. ويـداريــه
مــا بـين ذلـه مــع شموخه.. مـهـابه
بعض الصبر.. لو ينشرا منه لا أشريه
راضي.. بلاه إن الزمن ما رضـى بـه
بعده دريت أن الزمن تيه.. فـي تيه
وأن السكوت أرقى معاني الإجابه
الكاتبة حنان محمد
صفحة الواحة في ملف ( pdf )