«في مطلع العام القادم، سوف تتاح لي أنا وزوجي فرصة الانتقال إلى إندونيسيا لمدة 18 شهرا لغايات إنسانية، وسيكون اليوم هو آخر يوم عمل لي في مجال أبحاث الرأي العام، وقد قدمت تبرعي الأخير لمنظمتنا، وصوت آخر مرة في المؤتمر، وأقوم بتدريب شخص آخر في مؤشر ثقة المستهلك»
كانت هذه العبارة بعض ما جاء في رسالة وداع أستاذة جامعية وإحدى خبيرات استطلاعات الرأي العام Colleen Porter أرسلتها منذ فترة على مجموعتنا الخاصة بأعضاء جمعية بحوث الرأي العام الأميركية AAPOR، ثم ختمت رسالتها بالقول: أنكم قد تضحكون على قراري هذا! ولكن هذا لن يجعلني أتردد في الذهاب لإندونيسيا لمساعدة الضحايا والفقراء.
هكذا نشهد بين كل حين تحول الكثير من العاملين، في مجال الأعمال والسياسة بل وحتى العسكريين، إلى ساحة العمل الخيري، ولا سيما في الغرب، في ظل تراجع الدور الحقيقي للمؤسسات الدينية، وغلبة النظرة المادية والنفعية على المجتمعات الغربية بكل صرامتها وحدتها، وهو ما يدفع المرء إلى التساؤل حول الدوافع والأسباب الكامنة وراء هذا التحول بغض النظر عن مدى قناعتنا بها!
قد يكون الأمر استلهاما لتجارب سابقين، أو رغبة في تعميم النجاح الذي عايشه المرء إلى قطاعات جديدة، كما هو الحال مع بيل غيتس الرئيس التنفيذي السابق لشركة مايكروسوفت عملاق البرمجيات، ومؤسس «بيل وماليندا غيتس الخيرية»، وقد يكون توظيفا لرصيد فكري أو معنوي عند الإنسان، وشعورا منه بإمكانية تحقيق التقدم والتغيير في قطاع ما، وتأتي هنا، وفي السياق العربي، شخصية د. عبدالرحمن السميط ـ رحمه الله ـ «خادم فقراء أفريقيا»، والمشير عبدالرحمن سوار الذهب ـ رحمه الله ـ الرئيس الأسبق لجمهورية السودان، ونائب رئيس مجلس إدارة الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، والذي قام عام 1986 بتسليم السلطة إلى الحكومة السودانية المنتخبة، في مبادرة غير مسبوقة محليا وإقليميا، وبعد اعتزاله العمل السياسي، قام بتوظيف الاحترام والقبول الذي حظي به محليا وعربيا وأفريقيا ودوليا، في مجالات السلام والتنمية والأعمال الخيرية والإنسانية.
كما قد يكون التوجه إلى العمل الخيري نتاجا لأسباب إنسانية، تشترك فيها العامة والنخبة، والمشاهير وغيرهم، كالرغبة في تقديم مثال يحتذى به في المجتمع، أو تكوين شبكات من العلاقات الاجتماعية مع فئات متنوعة، أو سعيا إلى تحقيق الرضا الروحي أو العاطفي، بل وحتى التسلية وممارسة العمل في بيئة ودودة متسامحة بعيدا عن الصراعات والمنافسات كحال الرئيس الأميركي بوش الابن كما بدا في أحد تقارير شبكة CNN، وهو يقوم بطلاء الجدران أثناء ترميم عيادة مكافحة السرطان في زامبيا!
أكاد أجزم بأن كل من تنقلوا بالعمل بين القطاع الخاص والحكومي والأكاديمي والخيري وغيرها ينازعهم ذاك الشعور بالهجرة إلى العمل الخيري والإنساني وحلاوته فيضغط عليهم لترك ملذات المناصب والمال والجاه انطلاقا من «أحب الناس إلى الله أنفعهم».