«الشعر الشعبي» يختلف الناس في قبوله ورفضه وفقا لتذوقهم. إلا أن ما يهمّ الناقد بالأساس التطرق للمعاني والدلالات التي تطرح داخل ذلك القالب، حيث المعاني المكررة، والتعابير السطحية، والأساليب البائدة في الوصف والتشخيص كما جُيّر هذا الفنّ لدى فئة من الناس لصالح التسوّل العلني والضمني، وفق مشهد سيئ يشاهده الصغار والكبار.
واشكالية الشعر الشعبي ليست في كونه شعرا شعبيا وإنما في الدلالات والمعاني التي يحملها ويروج لها، فقد يوصف شعر فصيح بأنه «مغرق في شعبيته» وفق المعاني التي يتضمنها، فالشعر الشعبي الذي أنتقده الذي يحمل في جوفه التقاليد البائدة والعادات والخرافات الشعبية.
وأعجب جدا كيف كان «الشعر الشعبي» بتكريره الساذج لمعان شعبية محدودة محطّ انتقاد الفلاسفة والعقلاء منذ القدم، فنجد هيراقليطس (مؤسس الجدل) الفيلسوف المولود في أفسوس بآسيا الصغرى نحو 54 قبل الميلاد، نجده يعتب على الشعراء الذين يساهمون في تسطيح الوعي الجماهيري عبر التعليب الأعمى لمعان شعبية بحثا عن الجماهير، فيقول في شذراته عن هوميروس (إن هوميروس يستحق أن ينحى جانبا عن المسابقات الأدبية ويلقّن علقة ساخنة والأمر نفسه يستحقه آرخيلوخوس)، موضحا أن الشعراء الشعبيين ينطقون بما يرضي العامة. ويقول في شذرة أخرى (لقد كان هوميروس نصابا) ولعلّ سبب هجومه الأساسي أن بعض الشعراء يساهمون في «التشييء» للإنسان والإغراق في «الحسيات» بعيدا عن «العقل - والروح»، يقول مجاهد عبدالمنعم في شرحه لهيراقليطس: (إن هيراقليطس يهاجم بعض معاصريه والسابقين عليه ممن اتخذوا التشييء طريقا لهم إنه يهاجم في هوميروس اهتمامه بأن يكتسب العامة أقوالا من شعره لا تصمد للحقيقة بل هي تتملق الأحاسيس العامة ولعل هجوم هيراقليطس على هوميروس هو بذرة هجوم أفلاطون على شعراء المحاكاة المقلدين لعالم الحواس لا عالم العقل مطالبا بطردهم من جمهوريته).
لقد كان هجوم هيراقليطس عنيفا على طريقة التوجيه التي يمارسها «الشعر الشعبي» الذي يستخدم متطلبات مصنوعة قبلا من جهة الجمهور، فيخضع الشاعر لها تلبية لمطالبهم متناسيا دوره في تطوير الذوق وحفر ينابيع جديدة لتتخلّق واحة شعرية جديدة تساهم في التصالح مع العقل، ومع عالم الإنسان، نجد هذا في هجومه على «الشاعر هزيود» فيقول هيراقليطس في شذراته (إن هزيود ليس على بينة أن طبيعة الأيام جميعا واحدة) وذلك لما في شعر هزيود من طبيعة تعليمية، ذلك أنه أخذ التعليم من الخارج على أنه تراكم معلومات غير مدرك أنه لا فرق بين الليل والنهار لأنهما من طبيعة زمنية واحدة. فيصرّ هيراقليطس على نقد خضوع الشعر لمعاني العامة ومتطلباتهم، متطلعا أن يسمو بذوقهم نحو مراتب أخرى، وهذه هي مهمة الشعر أن يتجدد الشعور ويتجدد التعبير عنه، بقدر تجدد الحوادث، وبقدر تجدد الأزمنة. تلك كانت رؤية فيلسوف مهم اعتبره هيدغر أحد الفلاسفة الذين «منحونا التفكير» رغم قدم زمنه، وبعد عهده بالعصور الحالية، إلا أن شذراته بدقتها وعمقها بقيت ثرية، يستمرّ نبعها مع كل قراءة، وتتجدد دلالتها مع كل فعل تأويل.
إن الانتشار الذي نشهده الآن للشعر الشعبي عبر الوسائل الإعلامية، وفق المعاني التي يطرحها، تشكّل عملا يستفزّ الناقد لاعتبارات منها:
- التسويق العلني لعادات اجتماعية تهمّش دور العقل، وتضرب كيانات المجتمع وذلك عبر الفخر اللا مشروط بكل الأشياء التي ولد عليها المرء من دون تفكير في جدواها وصحتها، ومن دون مراجعة للموروث الذاتي والجماعي، فنجد الصراخ المتوحش بحروف ركيكة وكلمات بذيئة تروّج للذات وتصنع لها الامجاد والعنتريات، بينما نجد ذلك المتعنتر مجرد كائن متسوّل يقرض الوقت والشعر ويسكنه عفريت الجهل متربعا. يوزّع حركات الأيدي بنمط بهلواني سخيف، وهذا التعبير هو جزء من الدعاية التي حظي بها الشعر الشعبي من قبل بعض المكرّسين لثقافة الشعر الشعبي بمعانيه السطحية وأنماطه المتهالكة.
- خلق النماذج السيئة، فالكثير من الجهال الذين يرون هذا الشكل المخزي للثقافة الشعبية، يرون في هذا الزعق الدائم نموذجا «للشعر» لتتحول «ذائقة» جيل بأكمله من الشعر المتجدد بمعانيه ودلالاته، إلى خلق نموذج «الشعر الشعبي» المفرط في توتره.
- ركب الشعر الشعبي بأغلاله الماضية وسائل العصر، فأصبحت المحطات المغرقة في عصريتها «التقنية» تستضيف بعض الشعراء البسطاء بشعرهم «المخروم»، من الذين استقالوا عن «التفكير» منذ أول عملية «تصفيق» فمع كل بيت أخرق ومع كل قصيدة باهتة ينمو التصفيق وتشتدّ حرارة التهريج على جميع الاتجاهات، مما يدل على عمق السطحية والبداءة التي تسكن ثقافتنا حتى الآن مما يجعل الناقد والمتابع في دهشة. نظير استتباب المعاني العتيقة جدا والأفكار الخطيرة في خرافيتها وسذاجتها. فتنشر تلك القصائد «نتن الجاهلية» الذي حذّر منه النبي ژ وتحيي «عفونة التعصب القبلي» و«نتن التنابز الطائفي» وحسبك به من تشبيه.
وأخيرا، فإن هذا النوع من التهريج الشعري، مثله مثل أي منتج من منتجات «اللسان» الضارّة التي يحفل بها إعلامنا، إلا أن خطورتها في ممارستها للتعليب الدوري للعادات الاجتماعية الخاطئة وترسيخها للعصبية والسلوكيات المنفعلة بالإرث المثقل بالأحداث الأسطورية. أجد نفسي مضطرا للحديث عن هذا «البعبع» الذي بات يسكن إعلامنا ويتقاطر عليه الصغار والكبار يتسمرون كالبهاليل أمام الشاشات ينصتون لمعان تثير الأسف والاشمئزاز.
فهد الشقيران
صفحة الواحة في ملف ( pdf )