خرج من ثنيات الوادي «وادي الشعر» زاهيا ومزهرا ومزهوا بالكثير من الفخر والنصر بالكلمة والصوت، والصمت ربما.
شعره حد سيف، ونسمة صيف، ورهافة طيف، مبلل بمطر الربيع، ومكلل بتصوير جامح ووديع.
واذا كان الديوان «عادة» يرسم صورة لشخصية شاعرة، فمن الصعب ان يؤدي هذا الغرض ديوان الشاعر «ضيدان بن قضعان» فهو في جل قصائده يقف على الحد الفاصل بين الطهر والذنب.
مؤمن مخطئ يعرف خطاياه طامعا بمغفرة ربه التي يعرف أنها كبيرة. وفي تصوير بديع، يكتب «ضيدان» بتلقائية عجيبة، كأنه يستخرج لغته من حروف قلبه، فيكون المداد ما يجري في شرايينه، فرحا مرات، ومغرقا في الحزن مرات.
يأخذك الى تجربته المرة، حتى ينفطر القلب بجزالة التصوير:
لي على الدنيا ثلاثين وكفاني
منها العشر الاخيرات الشديدة
علمتني كيف أوقف لا دهاني
ما دهى سعدون في عقاب وعضيده
وعلمتني كيف لا ماتوا اخواني
ومات أبي والكف ما تصفق وحيده
وفي هذه القصيدة يمكننا استنباط الاسلوب المتعدد الشاسع في نتاج ضيدان من خلال تعدد الاغراض الشعرية، وقدرته على احتواء اكثر من فكرة، مع مقدرة فائقة على الانتقال من موضوع الى آخر، وهو ما يسمى في البلاغة «براعة التخليص» التي كان اكثر من ابدع فيها «أبو الطيب المتنبي».
وفي مشهد آخر، نلمح لدى ضيدان ذلك التوظيف الجيد للمعلومة، وذلك ينتشر في قصائده خاصة من ناحية ذكره لأسماء أدباء وفرسان وشخصيات، مع حوادث وكتب، بينما يوغل في التجربة فيجمع ذلك في احدى قصائده، مؤكدا بقاء القول بعد فناء الجسد:
كل يموت وينتهي والوقت يمضي هات هات
ولا عاد يبقى الا الذكر ان كان شرا وكان خير
والشاعر أبقى بعد موته بالعلوم الطيبات
أو عكسها والموت ياخذ والقصايد تستخير
أقرب مثال اللي لهم في البيت سبع معلقات
راحوا ولا زالت قصايدهم كما البدر المنير
الاعشى وعمر وطرفة بن العبد والعبسي ثبات
والنابغة وابن ربيعة وابن أبي سلمى زهير
والشعر فضل شاعره على سواه وله سمات
فضل أبو الطيب وهو سقا وأبوفراس أمير
هكذا يتجلى الانحياز للشعر، بكل غوايته، وأهوائه، ومن تبعه من الغاوين والغاويات.
وان كان ضيدان بارعا وعميقا في المطولات الشعرية، يبدو شفافا ولا يخلو من طرافة وحلاوة تعلوها طلاوة في بعض قصائده القصيرة التي غالبا ما تحوي معنى واحدا هو الحب، وذلك يبدو واضحا في أبيات مثل:
آه.. يالبيه.. يا بشويش.. يا هد الاضاءة
للجفول اللي من جفاله يجفلني ظلالي
أو مثل قوله:
والله انك بالغلا فارق جدا
مثل فرق الابتسامة عن الكشرة
مع العلم ان لضيدان الكثير من القصائد المرحة والطريفة التي لا يحب أن تنسب له، لأنه أنشدها بشكل بديهي بما يناسب الموقف، وحسبها ان تذكر في وقتها، ولا تتناقلها الالسن، الا ان الجمهور لا يرحم في هذا الجانب، ويحفظ أحيانا للشاعر ما يود الشاعر ان تذروه رياح النسيان. أما الفخر في شعر ضيدان، فيكاد لا تخلو قصيدة منه، سواء فخره بنفسه، أو نسبه، أو فعله، مع عدم انتقاص الآخرين، ولعل فخر الشاعر بذاته يحيي القصيدة أكثر ويجعلها اكثر جزالة وجمالا، وفي شعر ضيدان يتضح جدا انه مع خفة الدم وطرافة ولباقة الاسلوب، عشري جدا، يحب الناس ويألف لصحبتهم ويميل لمشاكستهم أحيانا ومشاركتهم احيانا، ويبدو ذلك في ردياته واخوانياته مع زملائه الشعراء الذين وردت بعض نماذج من ريادتهم في ثنايا هذا الديوان. أما ما خلد من الابيات في ذهن المتلقي مما قاله ضيدان، فأكثر من ان يحصى ومنه الكثير من الدرر المنثور في ثنايا هذا الانتاج، وقد تكون قصيدة «نسناس الشمال» أبرز ما حفظه الجمهور، مع كثير من القصائد التي تنافسها، والتي ربما ينتبه لها المتلقي أكثر عندما يقع هذا الناتج بين يديه. حسنا فعل الشعر أن أنجب هذه القامة الفارعة.
علي المسعودي
صفحة الواحة في ملف ( pdf )