محمد ناصر
حدث غير عادي.. هوى بيروت عانق صوت فيروز فاستراحت المدينة من صخب السياسة وضجيجها.. الآذان صغت والآهــات انطلقت والذكريات تدفقــــت مع بداية كل أغنية لتضاف سهرتا البيــال الى ســجل الحفلات الذهبيـة في تاريـــخ فيــــروز، فعلى مقربة من «مينا الحبايب» ومن شاطئ بيروت اكتظ الآلاف خارج ردهات مسرح البيال مستعدين للقاء محبوبتهم بعدما اغتسلوا من فروقاتهم وخلافاتهم وتوحدوا جميعا على صوتها الذي سما بهم الى دروب مضيئة بالمحبة التي ضمت الجميع الى صدرها كاغمار حنطة.
ليل بيروت امس كان ليل فيروز وليل لمس القمر والنجوم وليل اغتراف الاحلام وتخزينها والتمسك بكل آه صدرت من الأرواح قبل الحناجر وليلة التوهج للصوت الشجي والتضامن الحقيقي معه وذلك عبر الحضور الكثيف للأشقاء العرب وخاصة المصريين والسوريين من نجوم كبار وشخصيات قياديه.
عطل وضرر
بمقطوعة «عطل وضرر» الموسيقية افتتحت الليلة التاريخية وكانت النظرات الأولى تتجه لخشبة المسرح لمعرفة حضور أو غياب زياد الرحباني الذي سيزيد بحضوره السهرة القا على الق وسيثير بغيابه بعض التساؤلات لتظهر الفرقة الموسيقية كاملة من دون زياد الذي صدح صوت موسيقاه المميزة «عطل وضرر» بعدما سمعناها لأول مرة عبر البوم «معلومات اكيدة» للطيفة التونسية.
وبدأت ليلة سحر فيروز لتنطلق تساؤلات الحضور حول برنامج الحفلة المحاط بالكتمان والسرية هل ستكتفي سفيرتنا الى النجوم بأغاني زياد فقط على خلفية الازمة التي اثيرت اخيرا حول الخلافات بين العائلة الرحبانية او ستنهل فيروز من معين الاخوين رحباني المتدفق في ذاكرة الاجيال.
يتراجع الكلام قليلا قليلا في الصالة وتحل السكينة والهدوء فلا صوت يسمع الا صوت ضربات القلب المتسارعة للهفة لقاء فيروز وكأنها تتهيأ لانفجار لحظة اللقاء الذي دوى عبر حرارة اكف اكثر من 6 آلاف شخص التقت تصفيقا وعبر جنون الصرخات والرؤوس المرتفعة بحثا عن نظرة من فيروز والتي لم تهدأ الا بسماع صوتها ورؤية تعابير وجهها المبتسمة ابتسامة رضا وسرور عن الاستقبال المميز وكأنها تبرر غياب 4 سنوات بقولها لجمهورها «ينسى الغفا عيوني اذا بنساكم».
الجميع يترقب اغنية الافتتاح التي يؤشر لها التخت الموسيقي الشرقي بـ«سلملي عليه» وهو اختيار فيروزي ينم عن عزمها اهداءنا سهرة طربية بامتياز.
بدون مقدمتها الموسيقية صدح صوتها بالاغنية التالية بـ«بتذكر اخر مرة شفتك سنتا بتذكر وقتا اخر كلمة قلتا كيفك انت» ليأخذ الجمهور قسطه من الغناء فيها مشاركا السيدة فيروز بغنائها كلمة كلمة.
ايه في أمل
حالة من الهستيريا فجرتها «اشتقتلك» فبدت فيروز طير يريد ان يحط في قلب كل مستمع لتظلله بغمامة سعادة وفرح فكان لها ذلك «ما بعرف شو صايرلك انت عبعضك كلك ماتقلي ما قلتلك اشتقتلك هلق عايش عالهلة وبكرا رح تستفقدلي وتسأل مين كان يقلي اشتقتل» تغادر السيدة المسرح مخلفة وراءها انطباعا عاما ان السهرة ستكون زيادية بامتياز يتأكد الاحساس مع غناء الكورال «نشكر الله عنا بيانو نقدر نكسر لو اجريه يا بيانو الناس الاكابر بزمان الفن عالطناجر محنط متل الديك الرومي متل المخفر متل حكومة».
راجعة باذن الله اغنية الكورال التالية والتي انتهت بـ «مافي رمل بهالصحرا بيحرك الا بوحي من الله» معلنة عودة فيروز الى الصالة مطلقة اولى اغانيها الجديدة «الله كبير»، هدوء في الصالة..همسات تعلو.. وترقب وانصات.. « بتذكر شو كنت تقلي مهما يصير انطريني وضلك صلي الله كبير من يوما شو عاد صار عمدى كذا نها ما صار شي».
يستبد الطرب وتتسلطن الاجواء وتعم الآهات مع رائعة «ايه في امل» الاغنية التي ستكون مفصلا تاريخيا جديدا في محطات فيروز وزياد والاغنية التي تغنيها للمرة الاولى فعليا لان الله كبير سبق لها غناؤها في مهرجانات بيت الدين ولعلها تكون اكثر اغنية جديدة في حفلات فيروز تنال عاصفة من التصفيق من الجميع
«رغم الزهر اللي متلي الحقول وشو ما تحكي وتشرحلي وتقول
حبيبي حبيبي تاترجع لا مش معقول
شوفي القمح اللي بيطلع بسهول
شوفي المي اللي بينزل بسهول.. ايه في امل».
ياسلام على حبك
المفاجآت تتوالى ترميها السيدة على معجبيها لتتوهج بجديدها الى الحالة القصوى في «قصة زغيرة» خاصة مع روح زياد في طرافة وظرف كلامه وجمالية توزيع آلاته الوترية التي زينت هذه الاغنية
«الايام شو ضيعنا ايام والاحلام شو كبرنا احلام
وقلك قلقانة وانت تفوت تنام
ياسلام على حبك يا سلام»
تغادرنا فيروز لتبدأ عاصفة الكورال ب «بما انو» ويتبعها بـ«عايشة وحدا بلاك» التي اصبح الجمهور المؤدي الرئيسي فيها بصوت واحد
وكأن سيدة الامل تريد المحافظة على اشتعال الصالة فزادتها حرارة ب «ما شاورت حالي» ولكن من دون موال كما سبق وغنتها في حفلات بيت الدين لتنشر فيروز الضحكات المندهشة من خفة دمها وهي تقول «رايحة جايي بالبيت طاوشني خلخالي «
السهرة تنحو نحو ان تكون زيادية بالكامل مع موسيقى «عودك رنان وضلك عيد يا علي» لتكون الاغنية الوحيدة لزياد الثمانينيات بعدما سيطر زياد التسعينيات والالفية الثانية على برنامج زياد وفيروز.
ياريت
يبدأ الفصل الثاني من السهرة الحلم بدخول فيروز بفستان ابيض ملكي وباضاءة زادت من الهالة الاسطورية وبأنغام اغنية كانت مفاجأة الحفل لا لشي الا لانها من تأليف وتلحين الاخوين رحباني والاولى التي ليست لزياد...انها موسيقى «يا ريت انت وانا بالبيت» لتسجل فيروز مفاجأتها.. ها هي تغني من ريبرتوار الرحابنة بعدما تيقن الجميع ان الحفلة هي «فيروز تغني زياد».
بدأت التساؤلات ماذا ستغني الآن بماذا ستفاجئنا، الشوق سيحملنا لاي اغنية، الجواب يأتي سريعا مع فيلمون وهبه و«عالطاحونة شفتك عالطاحونة» لتمهد بهذه الاغنية للدخول في خصوصية الضيعة اللبنانية فكانت فيروز في قمة تألقها في «دورة عالدورة يا حلوة يا زغيورة بكرا بتجي العصفورة وبتاخدك مشوار».
الياس الرحباني كان حاضرا عبر «ليل واوضة منسية» ليتسلم الكورال دفة تطريب الجمهور ب «قصقص ورق» اتبعها بالضلع المكمل للابداع الفيروزي الرحباني نصري شمس الدين ب «طلوا طلوا الصيادي» التي تشكلت معها حلقات دبكة انتشرت في ارجاء صالة البيال.
الزمن الجميل
واصلت فيروز بعد ذلك قذفنا في بحور الزمن الجميل المغرق في لبنانيته مع «بعدك بتذكر يا وطى الدوار» من اوبريت «حكاية الاسوارة» وهي التي تعانق صوتها للمرة الاولى في حفلة حية ولتكون هدية فيروز الى شريحة واسعة من جمهورها اعتادت ان تهديهم خلال حفلاتها اغنية معتقة بكل صنوف التميز تستخرجها من خوابي الزمن المعتق بالجمالية والاصالة.
التضاد التام ارادت فيروز استمراره من خلال المقارنة بين صخب الفصل الاول وجنون كلمات وموسيقى زياد وبين الغرق في الحلم والولوج الى اغاني الضيعة الرحبانية حيث اختارت «حمرا سطحياتك حمرا» والتي اصبحت من اغاني فيروز المفضلة لتكرارها في حفلاتها الاخيرة.
حقبة رحبانية اخرى نقلتنا اليها فيروز مع «بعدنا من يقصد الكروم» الى «قلتلك شي لا لا» فأغنية الختام «امي نامت عبكير» وفيها تدحرجت ماسات صوت فيروز رنينا في الصالة التي وقفت منادية بصوت واحد مطالبة اياها بالعودة فلم تخيب امل جمهورها باعادة غناء الاغنية النجمة لحفل السهرة وهي «امي نامت عبكير».
النفوس المتعطشة لا ترتوي بالعودة لمرة واحدة بل تطلب اكثر واكثر ليبدأ دبيك الجمهور على الكراسي بنغمة واحدة كأطفال يرجون عودة محبوبتهم مرددين «فيروز فيروز» لتطفئ فيروز شمعة سهرة الحلم بـ «بكرا برجع بوقف معكن» وهو ما يرجوه جمهورها دائما لتصحبه الى مساءات وفضاءات ارحب يزينها صوت فيروز».