خلال الأشهر الخمسة الأخيرة لاتزال الأحداث في أوكرانيا تستلفت اهتمام المجتمع الدولي كله ـ اعتبارا من مظاهرات شعبية كبيرة في وسط العاصمة مدينة كييف أدت إلى الإطاحة بالرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش على حساب خسائر إنسانية هائلة وحتى العدوان الروسي الحالي الذي تعرضت له جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي ومحاولات موسكو ضم هذه المنطقة إلى روسيا الاتحادية.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى مسألة شعب تتار القرم بشكل جاد وهم بلا شك سكان أصليون مسلمون يقطنون المناطق الجنوبية لأوكرانيا ويتميزون بتاريخ مجيد ومصير صعب ومأساوي في نفس الوقت.
في ظل مناقشات مكثفة حول مكانة تحتلها هذه المجموعة العرقية في حياة أوكرانيا الحديثة نتجاهل أحداثا محزنة أخرى تؤثر على تشكيل وجهة نظر تتار القرم ـ في 18 مايو 2014م نحيي الذكرى السبعين للترحيل القسري لهذا الشعب العظيم الذي قام به النظام الستاليني.
يسكن تتار القرم في جنوب أوكرانيا (شبه جزيرة القرم ومحافظتي خرسون وزابورجيا) ويتحدثون بلغة تتار القرم التي تنتمي إلى أسرة اللغات التركية وهي إحدى اللغات المهددة بالانقراض وفقا لتصنيف اليونسكو.
تشكلت قومية تتار القرم في أراضي شبه جزيرة القرم ويعتبرون أنفسهم أبناء الشعوب المختلفة التي جاءت إليها في عصور تاريخية مختلفة إذ ينحدر أسلافهم إلى المجموعات العرقية العديدة: السكيثيين والإغريق والقوط والرومان والخازارس والبشنغس والشركس والأتراك.
ويعود تاريخ تتار القرم إلى عصر خانية القرم القائمة خلال فترة ما بين عام 1441م حتى عام 1783م وعبرت على مدى طويل عن ولاية خاضعة للدولة العثمانية أو حليف لها.
وتعتبر هذه الحقبة فترة لازدهار الثقافة والفنون والاداب لتتار القرم.
ومن أشهر الشعراء في ذلك العهد هو عاشق عمر ومن أهم الآثار المعمارية التي بقيت منذ ذلك الحين هو قصر الخان في عاصمة القرم في القرون الوسطى ـ مدينة بخشي سراي.
وفي عام 1783م أدى انتصار الامبراطورية الروسية في حرب ضد الدولة العثمانية إلى احتلال خانية القرم وضمها فيما بعد إليها.
ويسمى هذا العصر في تاريخ شعب تتار القرم بالقرن الأسود.
وسبب ظلم القيادة الروسية ومصادرة أراضي الفلاحين هجرة جماعية لتتار القرم إلى الدولة العثمانية وفي الوقت الحالي يشكل سلالتهم جالية تتار القرم في تركيا وبلغاريا ورومانيا.
وهناك موجتان رئيسيتان للهجرة في التسعينيات للقرن الثامن عشر والخمسينيات للقرن التاسع عشر وقد أسفر ذلك عن انحطاط الزراعة وخلو سهول شبه جزيرة القرم من الناس.
في نفس الوقت غادر معظم نخبة تتار القرم هذه المنطقة واتخذت الحكومة الروسية اجراءات ترمي الى استيطانها عن طريق استقطاب مستوطنين من الأماكن الاخرى للبلاد.
وأدى هذا كله إلى تقليص عدد تتار القرم الذين عاشوا في شبه جزيرة القرم من مليون شخص قبيل ضمها إلى الامبراطورية الروسية إلى أقل من مائتي ألف شخص فقط في أواخر القرن التاسع عشر.
نهضة تتار القرم لها علاقة بشخصية الفنان البارز وصاحب الفكر واسمه إسماعيل غاسبرينسكى (1851-1914م) وقد بذل قصارى جهده من أجل انتعاش شعب تتار القرم واستحدث بالفعل لغة أدبية جديدة لهم وباشر نشر جريدة «ترجمان» الأولى بها كما وضع المناهج الجديدة للتعليم المدرسي وبفضل ذلك جاء الجيل الجديد من مثقفي تتار القرم.
وبعد قيام ثورة فبراير عام 1917م عقد المؤتمر الأول لشعب تتار القرم الذي أعلن عن عزمه على إنشاء الجمهورية الشعبية المستقلة ودعا رئيسه والزعيم الوطني نومان تشيليبيجيخان في شعاره إلى «القرم لكل سكان القرم».
ولكن بعد قتله السريع من قبل البلاشفة في عام 1921م تم تأسيس جمهورية القرم السوفييتية الاشتراكية الذاتية الحكم في إطار جمهورية الروسية السوفييتية الاشتراكية حتى عام 1954م إذ نقل القرم إلى تبعية الجمهورية الاشتراكية السوفييتية الأوكرانية وثم أصبح جزءا من أوكرانيا المستقلة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991م.
وفي 18 مايو عام 1944م قامت اللجنة الشعبية للشؤون الداخلية في الاتحاد السوفييتي بترحيل قسري لشعب تتار القرم من أراضي جمهورية القرم.
وكانت عند المرحلين فترة ما بين عدة دقائق ونصف ساعة لجمع أغراضهم وبعد ذلك تم نقلهم بواسطة شاحنات إلى محطات السكك الحديدية ومن هناك إرسالهم في 70 قطارا تألف كل منها من 50 عربة مكتظة بالمهاجرين إلى أماكن المنفى النائية التي امتدت من شمال جبال الأورال إلى جمهوريات آسيا الوسطى.
وبسبب نقص الغذاء وسوء الصرف الصحي والازدحام الكبير لقي العديد من الناس حتفهم في الطريق.
وكما يذكر شهود العيان أنه تم قتل أولئك الذين قاوموا أو ما قدروا على المشي رميا بالرصاص الحي.
ودفن القتلى بشكل مستعجل بالقرب من خطوط السكك الحديدية أو حتى لم يدفنوا على الإطلاق.
وتشير برقية اللجنة الشعبية للشؤون الداخلية الموجهة إلى القائد السوفييتي جوزف ستالين إلى ترحيل ما يفوق 183 ألف شخص.
وعلى وجه الخصوص تم إبعاد حوالي 35 ألف أسرة إلى جمهورية أوزبكستان فقط.
وقد انتقل كثير من تتار القرم من أجل تلبية الحاجة إلى الأيدي العاملة في المناجم والمصانع ومواقع البناء من دون توفير الظروف الأساسية للحياة والعمل.
وفي السنوات الأولى توفي ما بين ربع ونصف ممثلي شعب تتار القرم في مختلف أماكن «مستوطنات خاصة».
وبين الشعوب الأخرى التي تم ترحيلها في الاتحاد السوفييتي تعرض تتار القرم للإهانة حتى بقدر أكبر: أولا، لم تكن عندهم فرصة للحصول على حق بالعودة إلى وطنهم أبدا، ثانيا، حتى خلال حقبة الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف المعروفة بـ «ذوبان الجليد» عندما استعاد الحكم الذاتي للشيشان أو الكالميك فتلقى تتار القرم الاقتراح بالذهاب إلى جمهورية التتار الاشتراكية السوفييتية الذاتية الحكم الواقعة على نهر الفولغا فقط لأنه لسوء حظهم لم يعترف النظام السوفييتي بإمكانية إطلاق اسم «تتاري» على القوميات والمناطق الأخرى.
ويثير سبب ترحيل تتار القرم شعورا عميقا بعدم العدالة.
وكانت حجة ذلك تعبر عن تعاون بعض تتار القرم مع الألمان النازيين في غضون الحرب العالمية الثانية وليس في الجزء الأوروبي للاتحاد السوفييتي السابق، شعب لم يتعاون ممثلوه بقدر ما مع قوات الاحتلال ولكن معظمهم قاتلوا ضدها بجانب الجيش الأحمر.
ومن بين تتار القرم خمسة حائزين لقب بطل الاتحاد السوفييتي وأحدهم اسمه أحدتخان سلطان أصبح بطلا سوفييتيا مرتين.
ووفق القانون الدولي لا يجوز أن يكون أي شعب (لاسيما من الشعوب الصغيرة) عرضة للعقاب على الجرائم التي يرتكبها بعض أو حتى كثير من ممثليه.
لم يكن تتار القرم يتعرضون للترحيل فحسب بل للاضطهاد: قبل عام 1956م لم يكن عندهم الحق في تغيير مكان الإقامة وتلقي التعليم العالي.
وبعد طردهم من شبه جزيرة القرم انتهجت القيادة السوفييتية سياسة مستهدفة إلى إزالة جميع آثار وجودهم السابق: وبما في ذلك إعادة تسمية 1310 نقطة سكنية ومن بينها 1155 اسما ذا أصل تتاري ودفن المقابر تحت التربة واستخدام بلاطات القبور من أجل تمهيد الطرق والقضاء على بساتين الفواكه المختلطة وزراعة كروم العنب بدلا منها وحرق المكتبات بكاملها وتدمير مجمعات معمارية «غازي المنصور» وجامع «العزيز» في مدينة باخشى سراي.
تسمى المرحلة الأولى للنضال «مرحلة العرائض» بسبب توجيه نداءات عديدة من قبل قادة سابقين للجان المحلية في منطقة شبه جزيرة القرم وزعماء حركة الفدائيين وكتاب إلى سلطات أزبكستان وأوكرانيا والاتحاد السوفييتي.
وكان من طبيعة الحال فض ألفي تتاري أثناء احتفالهم الجماهيري بيوم ميلاد لينين في مدينة تشيرتشيق الأزبكية في عام 1968م وذلك عن طريق استخدام مدافع المياه والضرب بالعصي.
وعلى الرغم من عدم التقدم بأي شكاوى من قبل التتار تم إلقاء القبض على 300 شخص منهم.
وتسمى المرحلة الثانية للنضال من أجل العودة إلى شبه جزيرة القرم «مرحلة التثقيف أو التنوير».
ودعا آباء الشعب إلى انتشار التعليم الوطني بين جيل الشباب.
ويذكر أن المحاضرات السرية في تاريخ شعب تتار القرم ساهمت مساهمة ملموسة للغاية في تغيير وجهات النظر التي شكلتها الأيديولوجية الرسمية.
وخلال فترة ما بين الستينيات والسبعينيات للقرن الماضي نجحوا في تأسيس حركتهم الوطنية التي انضمت إلى عملية هلسنكي الأوروبية وترأسها الشاعر والمنشق يوري عثمانوف.
وكان أحد رواد الحركة الوطنية لتتار القرم مصطفى جميليوف محكوما عليه بسبب محاولة دفن والده في أراضي القرم وانتشار مطبوعات محظورة.
وفي الوقت نفسه بدأت الهجرة لتتار القرم إلى وطنهم التاريخي وذلك على الرغم من منع السلطة الشيوعية المحلية عن الاستيطان سواء في شبه جزيرة القرم أو مناطق مجاورة أخرى في جنوب أوكرانيا.
ومن بين الحلفاء الطبيعيين الذين ساعدوا تتار القرم في عودتهم إلى وطنهم زعماء التيارات الديموقراطية -فياتشيسلاف تشيرنوفول من الحركة الأوكرانية العامة وليفكو لوكيانينكو من الحزب الجمهوري الأوكراني.
يسمى علم التاريخ الأجنبي التحالف بين الأوكران وتتار القرم «تلاعبا ناجحا» تقوم به كييف، ولكن منذ انهيار الاتحاد السوفييتي أوكرانيا هي الدولة الوحيدة التي تتحمل عبء النفقات الناتجة عن إعادة توطين تتار القرم على الرغم من أن اتفاقية استعادة حقوق الأشخاص المرحلين والأقليات القومية والشعوب التي وقعها كبار القادة لأعضاء رابطة الدول المستقلة في مدينة بيشبيك في 9 أكتوبر عام1992م نصت على أن الدول المشاركة ستغطي النفقات المتعلقة بعودة تتار القرم إلى وطنهم بشكل مشترك.
وخلال فترة ما بين 1991 و2010م ساوى المبلغ الإجمالي لنفقات موازنة الدولة 1.3 مليار غريفنا.
وقد استضافت أوكرانيا أكثر من 260 ألف تتار القرم.
وهذه هي نتيجة تضحية ألوف تتار القرم بأنفسهم ومن يتعاطف معهم في أوكرانيا.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه قبل الحرب العالمية الثانية عاش في شبه جزيرة القرم أكثر من 218 ألف تتاري ولكن في عام 1970م بلغ عددهم نحو 4 آلاف شخص فقط.
وحسب معطيات تعداد السكان الأوكراني العام الذي جرى في عام 2001م يعتبر تتار القرم من أصغر القوميات سنا في أوكرانيا وعمرهم المتوسط 33 سنة.
ويعني ذلك أن نسبة تتار القرم بين سكان شبه جزيرة القرم سوف تزداد.
ويعتبر تتار القرم جزءا لا يتجزأ من الشعب الأوكرانيوليس لديهم أي وطن تاريخي آخر إلا شبه جزيرة القرم وإنهم دائما يدعمون سلامة الأراضي الإقليمية لأوكرانيا وسيادتها السياسية.