أحمد العنزي
الفيلسوف الألماني كارل بوبر هو أحد أقطاب نظرية المعرفة المعاصرين والذي يقدم لنا درسا رائعا جدا في أسس المعرفة التي تقوم على محاولة الإنسان في تشييد معارفه ومعتقداته، السؤال الجوهري الذي طرحه هذا الفيلسوف والذي سيكون موضوع هذا المقال هو: هل نستطيع أن نثق بمعرفتنا ثقة يقينية مطلقة؟ ألا يوجد احتمال لأن تكون أفكارنا ومعتقداتنا خاطئة أو قائمة على أسس هشة لا تصمد أما التحليل المنطقي السليم؟ ولحل هذه المعضلة قدم نظريته الاحتمالية في المعرفة والتي تقوم على فكرة «إمكانية الدحض» وهي تقول انه لا يوجد في معتقداتنا وأفكارنا شي يقيني 100% بل هي قائمه على احتمال ليس إلا، ومعتقداتنا بناء على هذا التصور تصبح يقينية ما لم يوجد شي يدحضها ويقوضها، أي أن 1+1 = 2 فكرة صحيحة ويقينية لأنه لا يوجد حتى الآن ما يثبت خطأها، وبالتالي فإن يقينية العلم والمعرفة قائمه أصلا على غياب نقيضها، وبناء على فكرة بوبر هذه يتأسس سلوكنا أي أننا سنكون أقل حدية وتطرفا في اعتناق أفكارنا وسنفسح المجال لاحتمال خطئها من جهة وإمكانية تعديلها أو اعتناق الأكثر منها يقينية من جهة أخرى.
إن هذا النوع من التفكير هو ما نحن بحاجه إليه اليوم فلو تأملنا جميع أفكارنا لوجدناها خليطا متهالكا من أفكار ورؤى وتصورات شيدناها أصلا بطريقة خاطئة ولم نبحث أيضا عن نقيضها بحيث عندما نؤمن بها نكون مطمئنين أشد الاطمئنان لعدم وجود ما يدحضها ويقوضها.
لو سأل أحدنا سؤالا: لماذا عندما نكون في نقاش وحوار سرعان ما يتحول هذا النقاش إلى جدل بيزنطي لا فائدة منه؟ بل وقد يتحول هذا النقاش ـ في أشد صوره تطرفا ـ إلى تشابك بالأيدي في بعض الأحيان أو إلى صراخ عقيم؟ إن هذه الظاهرة موجودة في جميع المجتمعات وحتى في أشدها تمسكا بالعلم والمنطق، ولها أسباب متعددة، لكن في المجتمعات العربية أسبابها أكثر، فمثلا نحن نربط دائما بين من يخطئنا وبين الأمانة الشخصية لنا فمن يعدد لنا أسبابا عقلية مقنعه لأفكارنا الخاطئة نحول هذه الأسباب إلى تهم وإهانات فالمسألة مرتبطة بالحالة النفسية التي تثيرها فينا قوة المنطق من جهة وأخطاؤنا من جهة أخرى والغرور غير المبرر من جهة ثالثة، لكن أهم هذه الأسباب هي عدم إيماننا العميق بقيمة العلم وأبعاده الأخلاقية فلا يوجد فاصل بين العلم والأخلاق والمثقف الحقيقي هو إنسان أخلاقي يرفض ثبوتية معتقداته وأفكاره، والقيمة الحقيقية للعمل تكمن في أن كل شيء قابل للتجربة والاختبار وهذا يعني أن كل فكرة تطرح حول موضوع معين هي جديرة بالاهتمام والمناقشة ولا يوجد شيء من الناحية المبدئية لا يناقشه ويفحصه العلم وبالتالي فإن كل ما نتوصل إليه عن طريق التمحيص وما لم يوجد شي يقوضه فإنه سيكون مصدر اطمئنان وهذا بالتأكيد ينعكس على سلوكنا وتصرفاتنا ويمكن عندها أن نصف أنفسنا ـ في هذه الحالة ـ بأننا متصالحين مع أنفسنا.
والأهم من ذلك كله أن العلم سيجعلنا ـ بل سيضرنا ـ أكثر تسامحا مع الآخرين بل وأشدهم خصومة لنا، لأننا سننطلق من مبدأ كارل بوبر القائل: ما المانع من أن تكون فكرته أيضا صحيحة، فنظرية الاحتمال تلك ليس الهدف منها بالدرجة الأولى تقويض أفكارنا بقدر ما يكون الهدف منها قبول أفكار الآخرين أيضا على أنها محتملة الصدق أيضا.
فلو كنا نجلس متقابلين على طاولة ورسمت أنا من جهتي رقم 7 فإنك ستراه حتما على أنه رقم 8 مع اننا ننظر لنفس الرمز الرياضي، فالعلم يقول في هذه الحالة كلاكما على صواب، لأن العلاقة الحدية بين الخطأ والصواب تتلاشى في المنظور العلمي والعقلاني، فلا يوجد ما نردده دائما بأن رأيي صواب ورأيك خطأ، فخطأ رأيك ليس نتيجة لصواب رأيي بل يعكس مشكلة في المنهج والطريقة التي تنظر من خلالها للأفكار والأشياء أي في المقدمات المنطقية والفرضيات العقلية التي تبدأ بها لمعالجة مشاكلك وأفكارك.
إن الأهمية العميلة لهذا النوع من التفكير لو طبقناها في حياتنا وحواراتنا ونقاشنا فإنها ستجعلنا أكثر مرونة مع ذواتنا والآخرين ويمكن حينها أن نصف أنفسنا بالمجتمع المدني الديناميكي الذي يؤمن بأن تطور العالم من حولنا لن توقفه أفكارنا الرثة ولن يوقفه تمسكنا غير المبرر لأيديولوجيا عفا عليها الزمن.