يبدو أن تنامي التراكمات الاقليمية لا تبشرنا بخير والعمل الجاد في معالجة الازمات لم يجد اذنا صاغية، وأمل الحكماء والمحنكين في محاولاتهم لرص الصف ولم الشمل لم يتحقق بعد، بل تتصعد الأزمات وتتصدع المعاهدات وأيادي الشر والفتن ما فتئت تعبث ببلداننا لتحقيق مآربها الدنيئة.
ابتلينا بأنفسنا واكتوينا بنارنا، وقد لا يلوح في الأفق إشارات نستشف منها استعداد بعض القوى الفاعلة لسماع صوت العقل وكذا العمل الكادح لطي صفحات الخلاف واحتوائها وإجهاضها. قبل أن تطوى صفحة من دفتر الأزمات، تفتح صفحة أخرى، وقبل أن يداوى جرح، تمرق الجسم شوكة أخرى ليزداد سوءا وألما. لا وعد يرشدنا ولا وعيد يمنعنا. كأننا ماضون في وادي التيه ونتعايش في غيابة الجب..
وفي هذه الحالة المزرية وفي خضم هذا الزخم الهائل من قضايانا الإقليمية، خرجت القدس من ملف أولوياتنا ولم تعد من همومنا بعد. تاهت قضيتنا الرئيسية ولم تتح الفرصة في ردهات الخلاف المصطنع للحديث عنها او التفكير فيها. بل هناك نكبة تتكرر ونكسة تتجدد.
كان هناك سابقا من يرى القدس قضية محورية في العالمين الإسلامي والعربي، وكانت القدس تحظى بالاولوية فيهما، لكنها انحسر أمرها وتقلص حجمها وعفى عليها الزمن. هذه الرؤية في تحجيم القدس كونها عربية او اقل منها، لم تحدث فجأة، بل صغرت القضية شيئا فشيئا وتحولت من قضية عربية الى قضية فلسطينية ومنها الى قضية اصغر منها، فضاعت حتى ظن البعض أنها يمكن ابتلاعها، فذابت في التداول بها حتى رأى البعض انها كرة يمكن اللعب بها او التلاعب بمصيرها.
خرجت القدس من ساحة الاهتمام لتدخل في غرفة الانعاش. يغوص البعض في نسيانها أو يغرق في تناسيها. والآخر يسبح في الصمت المقيت عنها وراح يفكر في التحرر منها بدلا من تحريرها، والبعض باعوها بثمن بخس، وغلبهم الاستسلام واليأس، لا يروقهم الحديث والكلام عنها، ملوا من قضيتهم وأحالوا أمرها إلى غيرهم، وفي المقابل هناك من حاول دون كلل وملل لاستبدال محور النزاع وخلق عدو وهمي وتغيير اتجاه البوصلة من الكيان الصهيوني الى ايران وتعدى الأمر حتى زعموا أن ايران هي العدو الأول والأخير، تمهيدا لتلطيف صورة اسرائيل وترطيب الأجواء، للدنو منها وترتيب الاوراق للتلاقي معها.
وفي هذه المعمعة عصفت نكبة أخرى في الاقليم بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني ونكسة أخرى بإضفاء الشرعية على احتلال القدس، ففي عام ٢٠١٨ تكررت نكبة ١٩٤٨ ونكسة ١٩٦٧ وأما نكبة القرن ونكسة العهد ففي الطريق.
هذا في طرف، اما في الطرف الآخر فهناك رجال تشكل القدس همهم، وتحريرها ديدنهم الاول، وتحقيق شعار «القدس اولا» يتصدر اولوياتهم والصلاة في رحابها طموحهم، جيل جديد صاعد وصل الى قمة اليقظة وفجّر بركان الانتفاضة التي اشعل جذوتها الإمام الخميني الراحل ورسخها بإعلان الجمعة الاخيرة من شهر رمضان من كل عام اليوم العالمي للقدس.
وفي هذا الخضم لا يفوتنا ان نستذكر المواقف المبدئية المشرفة للكويت في دفاعها عن الحق المشروع للشعب الفلسطيني في مقاومة آلة البطش الاسرائيلية ولاسيما في مناصرة الحق الفلسطيني في كل المحافل الأممية والدولية، وكذلك موقفها في مجلس الأمن والذي لقي ترحيبا لدى ابناء الشعب الفلسطيني عبر التصدي والرفض لأي قرار من شأنه المساس بالقضية الفلسطينية وهو الموقف الذي هو محل فخر واعتزاز ليس على المستوى المحلي الكويتي، بل تعداه ليصل إلى الضمائر الحية جمعاء.
وهنا يأتي الحديث عن جيل يؤمن بأن جبهة الحق تنطلق بآمال جديدة وتندفع بحزم وإيمان وأن تباشير النصر تلوح في الأفق وهزيمة الكيان الغاصب باتت وشيكة. فلسطين تبقى حية في ضمير كل مسلم وفي وجدان كل إنسان حر أبي. وسوف تخضر اشجار الزيتون وتزهر بساتين القرنفل ويفوح عطرها من القدس.
فهل لنا الإتيان بنفس المانشيت «القدس أولاً»؟