فيصل الزامل
لا جدال في أن وعد بلفور هو جريمة أقدمت عليها بريطانيا في حق الفلسطينيين والأمة العربية والإسلامية، وعليها أن تعتذر عنها، ومن قبيل الفهم للمقدمات التي سبقت تلك الجريمة علينا أن نتذكر ظروفها حيث انخرطت تركيا العثمانية في تحالف غير مدروس مع ألمانيا التي دخلت في حرب مفتوحة مع عموم أوروبا بغرض السيطرة على المستعمرات التابعة لبريطانيا (الهند، استراليا وجنوب أفريقيا) وفرنسا (شمال أفريقيا) وهولندا (اندونيسيا)..الخ.
هذه الأهداف العريضة لم يكن لتركيا هدف منها سوى تحاشي غضب ألمانيا في حال فوزها، بالنظر لحيازتها امبراطوريتها، كان رهانا خطيرا بل قمارا غبيا وضعت فيه تركيا كل شيء مقابل لا شيء، والسبب هو الشخصية الكاريزمية لأنور باشا العضو الأكثر صخبا في مجلس الشورى بالأستانة، وكانت النتيجة هي تلك الهزيمة المدمرة لألمانيا وبالتبعية تركيا التي خسرت امبراطوريتها لصالح دول التحالف بقيادة بريطانيا وفرنسا.
استنزفت الحرب الخزينة البريطانية في الأعوام 1914 - 1915 - 1916 ما دعاها لطلب العون المالي من يهود بريطانيا وفرنسا الذين فتحوا لها خزائن البنوك التي يملكونها، وبالطبع طلبوا مقابل ذلك وعدا بوطن قومي لهم في فلسطين، في هذه الظروف تجد بريطانيا نفسها أمام عدو شن عليها الحرب وهو يسيطر على الأراضي العربية (تركيا) مقابل صديق بذل لها المال بغير حساب، ما هو القرار الذي تتخذه دولة في مثل هذا الموقف؟
وعندما وافق العرب على شن الحرب ضد تركيا فيما أسموه «الثورة العربية الكبرى» كانوا يتفاوضون مع الشخصية الخطأ في الجانب البريطاني، وهو عسكري برتبة كولونيل في حين كان اليهود يخاطبون مركز القرار مباشرة ممثلا بوزارة الخارجية ووزيرها بلفور.
نعم، كل ذلك لا يبرر جريمة ذلك الوعد المشؤوم،الا أن تفحص ظروفه يساعد على محاسبة المسؤول عنه، فقد تمت معاقبة العرب على قرار لا يد لهم فيه، وتجاوز الأمر مجرد فتح باب الهجرة لليهود الى تسليحهم وتمكينهم من القيام بمذابح للعرب بغرض تهجيرهم قسرا فيما يسمى اليوم بالتطهير العرقي، والذي شنت بسببه الولايات المتحدة حربا ضد صربيا، وصرب كوسوفو، فهي جريمة بكل المقاييس تتحمل فيها بريطانيا المسؤولية الأولى، ولكن أليس التاريخ يعيد نفسه اليوم؟ حيث يحتل العرب والمسلمون في بريطانيا موقعا متخلفا مقارنة باليهود الذين يتصدرون المواقع السياسية والاقتصادية الأبرز هناك ويشكلون ركيزة مهمة في منظومة الحكم، في حين لا تتجاوز الإطلالة العربية من جانب المهاجرين بيئة الأعمال المتوسطة وهواة السياسة في المقاهي وبعض المواقع الإلكترونية وأحاديث فضائيات نخاطب فيها أنفسنا حتى إن تحدثنا مع الإنجليز.
لقد استطاع اللوبي العربي في الولايات المتحدة أن يكون مؤثرا إن لم يكن في السياسة الخارجية ففي الشأن المحلي وأن يحمي الجالية قانونيا وتعليميا، بل انتقل الى ممارسة دور حضاري في تلك البلاد يتجاوز حدود الجالية لإفادة المجتمع بكل شرائحه، وهو انجاز كبير رغم أحداث سبتمبر، وقد أوردت هذا النموذج لبيان حجم التخلف الحاصل في أوروبا على هذا الصعيد، حيث لا يزالون هناك يخاطبون أنفسهم ولا ينتقلون الى الطرف الآخر ويتفهمون المنطلقات التي يخاطبهم منها، على نحو ما تناولناه في استعراض المقدمات التاريخية في «جريمة» بلفور.
كلمة أخيرة:
كتب مصطفى أبو عيشة (فلسطيني مقيم في لندن) الجمعة الماضية في «الوطن» مشيدا بدور الكويت تجاه القضية الفلسطينية ومنددا بالموقف المخزي للقيادة الفلسطينية إبان الاحتلال، واستغرب استضافة الكويت لعدد من رموز تلك القيادة على أرض الكويت قبل اصدارها اعتذارا تاريخيا لها (مثلما نطالب نحن بريطانيا باعتذار تاريخي عما فعلته بنا عبر وعد بلفور) كما قال.
كل الشكر للأخ أبوعيشة، الذي لم ينس العيش والملح.