قال: اللهجة المتفائلة التي تكتب بها معاكسة للتوجه العام المتشائم، وخصوصا ثناءك على السلطة بين الحين والآخر، فما هو السبب؟
قلت: لنبدأ بموضوع الثناء على السلطة كما أسميته، لابد أن نتفق على أن القدح على الدوام أو المدح على الدوام أمر يخالف المنطق، ولن تكون هناك أهمية للانتقاد من شخص لا يثني على الخطوة السليمة والتصرف الايجابي، فهذا الناقد بلا توقف يفقد مع مرور الوقت القدرة على التأثير، وبالعكس إذا جاء نقده الصارم بحق الخطأ الفادح بعد أن يكون معروفا بعدالته بين القدح والثناء ـ كل في وقته ـ فإن نقده الحازم يكون أكثر تأثيرا من ذلك الناقد لكل شيء ومع طلعة كل شمس وغروبها.
قال: مفهوم.. ماذا غير ذلك؟
قلت: المستفيد الأكبر من حالة النقد بلا حدود ـ وبغير توقف عند الايجابيات ـ هي الفئة المنحرفة في المجتمع، فالسارق يجد في شمول الاتهامات للجميع بالسرقة غطاء جميلا لفعلته، بعد أن صار الشرفاء معه في قفص الاتهام، فيندسّ بينهم بسعادة غامرة، هل هذا ما نريده لبلدنا؟ تسهيل مهمة تخفي السارقين بنشر الاتهامات في كل اتجاه!
قال: طيب.. وماذا بعد؟
قلت: «حكاية ما يمدح السوق إلا اللي ربح فيه» تقال لمن يحصل على المناقصات ويفتتح الفروع لمحلاته، أو يتبوأ المناصب التي توفر مزايا من مرتبات وبدلات وسيارات فارهة كل عام وسكرتارية بلا عدد.. الخ، ولا تقال لمن يعمل متطوعا لحفظ أموال الأجيال وتحسين أداء الاحتياطي العام، بلا مرتب ولا مزايا من التي تعرفها (تحسين وضع للوزير وشراء صوت لغيره)... واضح؟
قال: واضح... أكمل.
قلت: لقد عاش بلدنا رهينة لمدرسة الرفض السياسي ردحا من الزمن، واستفادت هذه المدرسة كثيرا من هذا الأسلوب سواء على المستوى الشعبي في فترة المد الثوري وانعكاساته النفسية ـ التي لم ينقصها إلا تعليق صورة «تشي غيفارا» في البيوت ـ أو على المستوى المادي، كل حسب ميوله، المناصب للبعض والتجارة للبعض الآخر، وكان حصاد هذا الأسلوب ما ترى وتسمع، فشلا ذريعا اشترك فيه الطرفان، فهذا عبث بالتركيبة السكانية لمواجهة خطر الرفض المطلق، وذاك تمرغ في أدغال الحالة الثورية المزعومة رغم تخمته بالمنافع والمناصب.
قال: حسنا، ثم ماذا؟
قلت: لقد كانت مسايرة الاتجاه العام، كما ذكرت في بداية حديثك، هي خيار الكثيرين من جيلنا، ولكنني توقفت أمام الحديث الشريف «لا يكن أحدكم إمّعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، وليوطن أحدكم نفسه إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم» وفي مناسبات كثيرة انتقدت الأخطاء في أداء السلطة، غير أنك لاحظت الثناء على الأداء الجيد فقط، ولا ألومك، ليس فقط لأنه قليل، ولكن أيضا لأن الذوق العام في بلدي قد اعتاد على ما بثته تلك المدرسة في ذهنه، فالناقد أبدا لابد أن يكون على حق، ما هذا من العدل في شيء، لقد تسللت هذه الثقافة الى دنيا المحامين حتى قال أحدهم «إذا رفعت صوتي بالمرافعة واستخدمت لغة الإشارة يتأثر القاضي، شتحجون انتوا، هذيله هم بشر».
قال: هل تقصد أن نتوقف عن النقد؟
قلت: لا، وقد أوضحت موضوع «إن أحسنوا وإن أساؤوا»، ولكن أن نتوقف عن متابعة منهج طالت هيمنته، ومن عجائب ذلك المنهج أنه يملك القدرة على الانقلاب على نفسه ويشارك في السلطة بعد كلام من نوع «لا يشرفني أن أشارك معهم»، وبعد قضاء الوطر يعاود لبس زي «غيفارا»، إنها ثقافة «هذا سلام الشجعان» التي تجيد الانتقال من خندق الى آخر.
قال: صحيح، هذا شيء لاحظناه.
قلت: يا سيدي، السلطة يتولاها بشر، وعندما يصل إليهم الثناء على الأمر الجيد فإنهم يتحمسون لزيادته، فإذا اقتصر الأمر على الذم ماتت الهمم، أكثر من ذلك أن من ينتهج النقد على الدوام لا يتحمل منك تلميحا فضلا عن أن تنتقده، فإذا به يحاربك بكل شيء تصل إليه يداه أو لسانه، لماذا نفترض في طرف التحمل بلا حدود، وفي الطرف الآخر الذم بلا قيود؟
قال: أعتقد أننا بحاجة الى وقفة جادة في «علاقة الراعي والرعية».
قلت: هذه ممكنة فقط إذا تملك المرء الثقة بنفسه، ولم ينتظر حكاية «سلام الشجعان» و«إصلاحي/غير إصلاحي» أن تمنحه ثقة لم تعد تحظى بها.
كلمة أخيرة:
أدت ثقافة الذم والتفاخر به إلى تحول نفسي منذ العام 1977 في تاريخ السلطة، تحول من اندفاعة قوية نحو المبادرات إلى الهدوء والتأمل فقط.