في رحلة دامت 3 أسابيع قضيتها في ربوع سنغافورة برفقة ولدي خالد وفي زيارة لابنتي نوف المقيمة مع والدها هناك حيث تعمل في مكتب هيئة الأمم المتحدة- فرع سنغافورة، وعند عودتنا للكويت في المطار وتحديدا في قاعة رجال الأعمال أسندت ظهري إلى الأريكة في انتظار موعد الإقلاع، وصرت أحلق بأفكاري هنا وهناك ليس المهم لم سافرت ومع من سافرت؟ لكن المهم كيف نستفيد من التجربة السنغافورية، هذه المدينة الفاضلة كما يسميها الكثيرون والتي اعتقدت في البرهة الأولى أنهم يبالغون، ولكن بعد زيارتي الأولى أجزمت بأنها مدينة فاضلة.
فكيف استطاع رئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو في أقل من 60 عاما ان ينقل سنغافورة من العالم الثالث إلى العالم الأول خلال جيل واحد؟ ومن جزيرة بلا موارد طبيعية وتعاني من مشكلات البطالة والفساد الإداري وأزمة السكن إلى خامس أغنى دولة في العالم من حيث احتياطي العملة الصعبة والذي وصل إلى أكثر من 170 مليار دولار؟ ومن دولة متناحرة عرقيا ودينيا إلى أكثر الدول استقرارا سياسيا؟
من الواضح أن ما ساعد سنغافورة على التقدم بعد استقلالها هو أنها تنعمت بالديموقراطية الحقيقية، حيث حققت من خلالها الرقابة والمساءلة الشعبية وأسقطتها على الواقع ولم يكن مجرد شعارات إنما قول وفعل، وتشربت قياداتها قناعة مهمة وهي «أن الجميع شركاء في هذا الوطن وأن لكل مواطن حصة في هذا الوطن».
وحرص الحزب الحاكم على الواقعية والمرونة والنزاهة في سياسته وفي التعامل مع المواطن، وكانت رؤية الحزب هي التنمية للمواطن ومن خلال المواطن، فكان ومازال جل اهتمامه هو صناعة إنسان فهي لا تملك موارد طبيعية إنما لديها موارد بشرية فكان الإنسان هو حجر الزاوية في التقدم.
فلذلك نال التعليم الجزء الأكبر من الاهتمام وكان نظاما تعليميا صارما قائما على شعار «الأهلية والاستحقاق» كفيل بمساعدة أبناء الوطن على اكتشاف قدراتهم وإمكانياتهم أثناء المسيرة التعيلمية ومن ثم الوظيفية ومن ثمرات هذه السياسة تحقيق مقولة «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب»، وقد حرص رئيس الوزراء لي كوان يو على تعيين الوزراء والقياديين من الكفاءات الوطنية وأصحاب المواهب المبدعين وهذا بالتأكيد انعكس برأيه على سياسة الدولة وفعاليتها.
والأهم من هذا وذاك هو النزاهة والشفافية في مكافحة الفساد وفصل القضاء وجعله مستقلا وإطلاق يد القضاء في ممارسة صلاحياته وتطبيق سياسة «من أين لك هذا؟» تطبق على الجميع، وكانت الحكومة صارمة في تطبيق القوانين وتضرب بيد من حديد كل من تسوّل له نفسه الرشوة والاستيلاء على مقدرات الشعب، لكن الله المستعان على حالنا، أصبحت الرشوة حقا مستحقا للموظف وبعثرة المال العام أمرا معتادا، وهناك القانون يطبق على الكبير قبل الصغير وعلى الهامور قبل الزوري، وبذلك تحقق الأمن والأمان وهذا ما شعرت به هناك، شعور لم اشعر به حتى في الدول الأوروبية.
شوارع سنغافورة نظيفة وشعبها شعب راق ومتحضر يحترم القانون والتعايش مع الآخر يمكن ألا تشاهد شرطيا، لكن هناك كاميرات ترصد في كل مكان، والأهم من هذا وذاك الرقابة الذاتية العالية لدى الأفراد.
ومما ساهم في ازدهار سنغافورة هو الاعتناء بالأسرة وأنها المرتكز الرئيسي للمجتمع وترسيخ المنظومة القيمية في المجتمع والعدالة في تطبيق القوانين والاعتناء بالإعلام المحلي أكثر من الإعلام الأجنبي والشفافية في نقل المعلومة.
وسعت الحكومة بجهود حثيثة للقضاء على الطائفية وتعدد الديانات والأعراق وكفلت حق التعايش للجميع والولاء لسنغافورة، فإن العدالة وضمان الحقوق وتملك المنزل والاستقرار السياسي والاجتماعي وكذلك المساواة كفيلة بولائهم لسنغافورة ونسيانهم لأصولهم وموطنهم الأم الذي انحدروا منه.
والسؤال الآن هل يمكن تطبيق ذلك بالكويت؟ نعم فـ «لا» لغة العاجزين، وكل منا مطالب بأن ينهض بنفسه وبدائرته سواء كانت أسرة أو مدرسة أو وظيفة أو جمعية، والأهم من هذا وذاك الاهتمام بالنشء والجيل الصاعد، فحالنا لا يسر عدوا ولا صديقا، فها هم شبابنا يتجولون دون هدف أو خطة ولا حتى رقابة في المولات، والصغار يتجولون مع الخدم والسائقين دون حسيب ولا رقيب، وهذا الحال لن يجعلنا في مصاف الدول بل في مؤخرتها، فالله الله يا مربين في حفظ الأمانة وتأهيل الأجيال فأنتم رواد النهضة وصمام الأمان.
ولكن في النهاية استيقظت على صوت ولدي خالد وهو يقول: «يلا يمه نبي نروح عند البوابة» واستوعبت في لحظتها ان ما فات هو هذيان قلم سنغافوري وأمانٍ كويتية.
ebtisam_aloun@