المظاهر العصرية، رغم أهميتها تقنيا وعلميا وعمليا، إلا أنها ليست كذلك روحيا، فقد أفقدتنا وسائل الاتصال الحديثة، مثلا الكثير من الدفء الذي كان يسري في حناجرنا، ونحن نهنئ بعضنا بعضا بالمناسبات الدينية، كشهر رمضان المبارك. كانت التهنئة تسري مع النبض في مصافحة الجار لجاره، والأهل للأهل. ثم جاء الهاتف، فرضينا به بعد تمنع وتذمر لأنه سلبنا تواصلنا الحميمي، وأفقد العائلة لحظات الالتقاء والتجمع، حين اقتصر بعضهم على التهنئة العاجلة عبر الهاتف، ولم نستفق من هذا الجفاء. وما كدنا نقبل به على مضض ونعتاد عليه، حتى جاءتنا المسجات والإيميلات، والتي قضت على آخر المشاعر الإنسانية النابضة، حين تحولت التهنئة الى بضعة أسطر آلية جامدة جاحدة، لا حياة فيها، يحاول مرسلها التحايل على جفائها بتلوينها ببعض الرسومات أو الزخارف على سبيل «رشوة المشاعر» أو خداعها. بل أصبحت الإيميلات تتفنن في صنع تهنئات مدعمة بأشعار وحكم وأمثال وعبارات أحيانا بليغة وأحيانا ركيكة، ومع ذلك تبقى عاجزة عن حمل النبرة الحنونة التي تحملها الأصوات، وأوهن وأضعف من أن تجعل القلب ينبض فرحا برؤية جيراننا أو أصدقائنا.وحتى الزملاء في العمل، بعضهم صار يكتفي بتهنئة زميله عبر الإيميل أو المسج، على الرغم من التصاق مكتبيهما. وإذا عاتب أحدهما الآخر، يقول له «ألم أرسل لك تهنئة بالإيميل»؟
رمضان تحول في مفهوم الأجيال إلى مسلسل ينتظرونه من عام إلى عام، أو الى مسابقات واستعراضات وتسوق وتنزيلات وعروض، وغابت عن دنيانا روحانية القناديل التي كان يحملها الأجداد ليلا وهم في طريقهم الى المسجد، بخشوع الأتقياء.
شهر رمضان اليوم يعني للموظف تقاعسا عن العمل، وتهاونا في أداء الوجبات، ويعني أكثر من ذلك نرفزة وعصبية ويصبح الشعار الأوحد للكثيرين، المصطلح المحلي الشهير «مالي خلق». العمل عبادة، والإسلام دين علم وعمل. وجاء في كتاب «دستور المهن في الإسلام» للمؤلف عباس حسن الحسيني: «سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أحد أصحابه وقد غاب عنه فقال له إخوته: هو يصوم النهار ويقوم الليل فقال الرسول: فمن يطعمه ويكسوه؟ قالوا:كلنا يا رسول الله. قال كلكم خير منه».
نحن لا نطالب بالعودة الى زمن «الفريج» كأبنية وحارات.. ولكننا نطالب بسلوك أهل ذاك «الفريج» وروحانيتهم. ونحلم بأن تعود إلينا عادات ذاك الزمان وقيمه الاجتماعية، فتلك يجب ألا تتبدل بتبدل الزمان، ولا ان تهزمها التكنولوجيا ولا وسائل العصر.
اليوم رضينا بالإيميلات والمسجات، بعد أن كنا قبلنا بالتهنئة عبر الهواتف على مضض. والله أعلم كيف ستكون التهنئة في الأزمان المقبلة.. ربما بالأمنيات القلبية.
[email protected]