كنا نكتب بالحبر على القرطاس، وكنا نشمّ رائحة القرطاس وقد بلّله الحبر، ونداوي وَلَهَ عيوننا بما خطّت أقلامنا، فتنتشي ـ من بعد أنوفنا ـ عيونُنا، حتى عثراتنا وأخطاؤنا كنا نبقيها معلّمة بخطوط الإلغاء والرفض.
كان كل مقال ـ بالنسبة ـ لنا قصيدة، وكنا نتباهى بعباراتنا وجملنا نقويها ونزيّنها ونزجيها لعين قارئها كالعروس الفاخرة الزينة الباذخة البهاء.
كانت مقالاتنا عرائسنا القادمات من أصلابنا، وكلما قدمنا عروسا، طالت قاماتنا وترصعت صدورنا ببريق يشعّ بريقا في عيون الآخرين.
عندما كنا نمضي حاملين أوراقنا أو عرائسنا، إلى الجريدة، كنّا كمن يمشي بزهو متباه.
ثم جاء زمن «الفاكس» فعقرنا جِمالنا وأنخناها في ظلمة الوداع، وصار «الفاكس» بديلا عن مشاويرنا الرائحة الغادية، وصار الذهاب إلى مبنى الجريدة إمّا اشتهاء وإمّا اشتياقا.
ولكن رغم «الفاكس» فإن القرطاس والقلم، بقيا هما الرئتيْن اللتين نتنفس منهما كتابة، ودونهما يموت الكاتب والمكتوب.
وفي تعاقب الليل والنهار والنهار والليل، صرنا في زمن نكتب فيه بلا حبر ولا قرطاس.
نسينا لون الحبر وشكل القلم ونسينا ما هو القرطاس، ومثلما عقرنا جِمالنا، تنكرنا لذلك الرفيق الذي كان يتدفق بما نحشوه من مشاعرنا وأحاسيسنا، تنكرنا للقلم حتى لم نعد نراه.
ومعه تنكرنا أيضا لتوأمه القرطاس.
باتا من آثار الماضي وأثرا بعد عين.
إنه زمن «الإنترنت» الذي حولنا إلى أشباح تخاطب أشباحا.
كنا نكتب والحروف مخبوءة في رؤوسنا، وصرنا نكتب والحروف مبسوطة أمامنا، تنادينا وتقول لنا «هيت لكم».
أنا ال أ وأنا ال باء وهذي ال ج وتلك ال ح وما عادت ال ي أقصى الحروف ولا هي آخر مطافها، إنها جارة ال باء وال س وأختها ال ش.
أنا الهمزة أنا الكسرة أنا الفتحة أنا الضمة أنا الشدّة، كلنا طوع عينيك وبنانك فاكتب.
هذه سرحة زمنية قوامها أربعون عاما أو نحو ذلك في عالم الكتابة الصحفية، تقدمت الوسيلة خلالها كثيرا، ولا أدري هل تخشبت كتاباتنا وصارت صماء مثل تلك الوسيلة!
كم يأخذني الحنين إلى القرطاس والقلم.
هل نزعت منا الآلة تلك الأحاسيس؟
[email protected]