من المعروف هنا في الولايات المتحدة الأميركية يوجد ما يسمى بـ «خزانات الحياد الأكاديمي والموضوعية الفكرية» والمقصود بها مراكز البحث والمنتشرة على وجه الخصوص في جميع أنحاء «البيلتواي» في واشنطن دي سي بمقاطعة كولومبيا، ويعتبر البعض منها كمؤسسات بحثية مرموقة الأقوى في جميع أنحاء العالم. كونها تعمل وبقوة من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية، وحرية التعبير، وحرية الصحافة والإعلام في العالم أجمع. بل وتتدخل في أحايين كثيرة في تشكيل السياسة الأميركية الخارجية.
ولا أنكر هنا أنه كان من دواعي سروري أن أعمل في اثنتين من أكبر تلك المؤسسات البحثية وأكثرها شهرة وإعجابا لدى جمهور كبير من المفكرين والباحثين والسياسيين في العالم، وهما مركز «وودرو ويلسون» الدولي للبحوث و«معهد هدسون» الموجودان في العاصمة السياسية واشنطن دي سي، ولا أنكر أيضا هنا أنه كان هناك الكثير ممن أصادفهم يتمنون العمل بهذين المركزين لسمعتهما وقوتهما في العمل السياسي وكذلك في قوتهما في تقديم المقترحات والقرارات في السياسة الأميركية للبيت الأبيض، ولكني في الوقت ذاته أعتقد أن مراكز البحث بشكل عام هي من أسوأ مراكز البحوث نفاقا في العالم.
فمنذ وقت ليس ببعيد نشرت صحيفة نيويورك تايمز دراسة كانت قد أجرتها على عدد من الدول الأجنبية الصغيرة التي يصعب عليها خلق نفوذ لها داخل السياسة الخارجية الأميركية وكذلك يصعب عليها الوصول إلى مسؤولين حكوميين أميركيين وإلى أعضاء في الكونغرس الأميركي مما يضطرها اللجوء إلى تلك المؤسسات، وشراء نفوذ لها من خلال هذه المؤسسات، مشيرة إلى أن تلك المؤسسات تستخدم بعض جماعات الضغط على الحكومة الأميركية، والتوجيه لقضايا وأمور تخدم مصالح تلك الدول الصغيرة وهذا ما أطلق عليه بـ «الإيبولا الفكري».
ونظير ذلك تلقت تلك المؤسسات البحثية البارزة ملايين الدولارات من تلك الدول الأجنبية الصغيرة ومن جماعات الضغط نظير خدماتها البعيدة كل البعد عن عملها الأساسي.
مما يجعلنا نقف أمام أسئلة وعلامات استفهام كثيرة مقلقة ومحيرة في آن واحد، أهمها كيف تعمل تلك المؤسسات التي في ظاهرها العمل من أجل الحريات وحقوق الإنسان؟ وهل يعلم صانعو السياسات الأميركية الخارجية بعمل تلك المؤسسات التي تعتمد عليها في عملية تشكيل الفكر والرأي السياسي أم لا؟ أم أنها غافلة تماما عن ذلك؟ وأخيرا هل يمكننا أن نعتبر عمل تلك المؤسسات نزيها فعلا؟
منذ عام 2011 وإلى اليوم، ساهمت 64 دولة أجنبية على الأقل في تمويل 28 مركزا من تلك المراكز والمؤسسات البحثية الكبرى وفقا لبعض الخبراء القانونيين، وذلك نظير تلميع صورتها والضغط على واضعي السياسات الأميركية تجاهها من أصحاب القرار في واشنطن.
فنستنتج من ذلك أن تلك المراكز عملت على انتهاك صارخ للقانون الأميركي الاتحادي والذي وضع سنة 1938 للحد من حملات الدعاية النازية داخل الولايات المتحدة، كما أنها انتهكت أيضا قانون تسجيل الوكلاء الأجانب في أميركا، وهذا القانون يتطلب من تلك المراكز التي تدفع لها الحكومات الأجنبية بهدف التأثير على السياسة العامة أن تسجل «عملاءها الأجانب» في وزارة العدل الأميركية.
ومن ضمن تلك المراكز التي استخدمت الأموال الأجنبية معهد بروكينغز، ومركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، ومجلس الأطلسي. هؤلاء جميعهم أنتجوا الأبحاث السياسية واستضافوا محادثات، ونظموا اجتماعات خاصة لكبار المسؤولين في الحكومة الأميركية لدعم أجندة بلد أجنبي. وقد جاءت معظم الأموال من أوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط، لاسيما من بعض الدول العربية، وفقا للدراسة التي قدمتها نيويورك.