كان المثقف في الماضي مصدر تهديد للأنظمة الحاكمة، وكان الرقباء يطاردون الكلمات في ورق الكراريس وهوامش الكتب، ويفتشون عن المعاني المخبوءة بين السطور، ويخضعون الفاصلة أو علامة الاستفهام للتحليل والتأويل.
وكانت الصحف والمجلات مضامير ينشط فيها العسس ورجال الخفية و«الدواسيس»، وكان المخبرون ينسخون المقال أو القصيدة أكثر من نسخة لإرسالها إلى الجهات المختصة مثل جهاز أمن الدولة واستخبارات الجيش والبوليس السري وشرطة الآداب، وقت كان الجميع يطبق المقولة النازية الشهيرة «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي» والتي تعكس قوة الثقافة وهيبة المثقفين!
***
اليوم تبدلت الأحوال، وأصبح الجهلاء أو النكرات أو الأسماء المجهولة مصدر التهديد للأنظمة السياسية، فمراكز البحث والتحري والرصد الأمني مشغولة في كل مكان بمراقبة الأشباح ومطاردة السراب في هذا العصر المعصور الذي يخرج فيه شخص غير معروف، وليس لديه أنشطة سياسية سابقة، فيقود «ملايين» الناس في ثورة شعبية عارمة، يضطر معها الرئيس حسني مبارك إلى التنحي عن الحكم، لتقوم دولة أوروبية بمنح الثائر المجهول «جائزة حرية الصحافة» وهو لم يعمل في الصحافة قط، وتلاحقه دور النشر العالمية للحصول على حق نشر كتابه الذي لم يكتبه بعد! في حكاية غريبة لم تحدث حتى لفلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية في روسيا!
***
نعم فقد انقلب المشهد رأسا على عقب. فرجال التحري الذين كانوا ينشطون في المنتديات الأدبية والفكرية، حيث الأدباء والمثقفون نقلوا أنشطتهم ومراكز أعمالهم إلى نوادي البلياردو ومقاهي المولات حيث الصبية الصغار والمراهقون الذين يشكلون خطرا ساحقا ماحقا يهدد الاستقرار والأمن القومي.
ولو أن أديبا أريبا أو مثقفا لبيبا حمل مؤلفاته وجلس أمام مخفر شرطة وراح يسب النظام بأعلى صوته وتحدث عن «التكتيك والديالكتيك وقال كلاما يفلق الصخر والسيراميك» لما التفت إليه أحد، وفي حال استمراره حتى حلول الظلام ربما يخرج إليه رئيس المخفر ليطلب منه بأدب جم خفض صوته قليلا كي ينام الجيران!
www.salahsayer.com
@salah_sayer