ذعار الرشيدي
اقتحم ابني الصغير علي خلوتي في مكتبي المنزلي الذي أتخذه كغرزة للتدخين بعيدا عن عينيه البريئتين، بمنطق ابن السنوات السبع فاجأني بقوله: «يبه لا تدخن أنا ما أبيك تموت»، قال جملته تلك بنبرة الواثق رغم أنني كنت قد أطفأت آخر سيجارة دخنتها قبل دخوله بربع ساعة.
طفلي الذي لا يريد لوالده الموت بسرطان سببه التبغ، يمثلنا نحن ابناء البلد الذين لا نريد لبلدنا أن يفتك به سرطان الفساد الذي استشرى حتى ان بعض أوصال البلد لم تعد قادرة على الحركة بشكل سليم، وكلما أخضعت لفحص قالوا لنا: «شكلنا لجنة»، ولجنة تلد أخرى وأخرى تبيض أخرى وخامسة تفقس من البيضة وتخرج أخرى حتى ينتهي الأمر الى موت ذلك الطرف السقيم دون أن تصرف له حبة دواء واحدة رغم أنه عرض على عشرات الأطباء.
البلد بأكمله وكأنه تحول إلى غرزة «يكركر» في كل ركن منه ألف فم وفم، ينفثون ليتنفس ووطننا الصغير الذي لا يملك سوى رئة واحدة دخان الفساد يوما بعد يوم.
وان كانت رئتاي قادرتين على تحمل الدخان لعشر أو لخمس عشرة سنة قادمة فرئة وطننا الصغير لم تعد تتحمل أكثر من ثلاث أو أربع سنوات على ذمة طبيب متخصص في الاقتصاد، خاصة في ظل ازدياد أعداد «المدخنين في المال العام».
ابني لم يرني وانا أدخن ورغم ذلك علم بجريمتي التي ارتكبها بحق رئتي وبحق مستقبله كطفل خائف من أن يختطف الموت السرطاني والده، وفي بلدنا حقيقة لم نشاهد أحدا يسرق ولم ترصد أمهات أعيننا ولا خالاتها أو حتى بنات عماتها من طرف الجد الرابع شخصا ما يمد يديه على المال العام، ولكن الدخان الذي يخرج من أسقف بعض الوزارات دليل واضح على أن شيئا ما يطبخ وبالتأكيد هو ليس رائحة «مطبق زبيدي» بل رائحة سرقة علنية، تذهب مقدراتها لا مقاديرها إلى جيوب انتفخت بطون أصحابها حتى انك تحلف انك لا تكاد تسير مع بعض القياديين إلا وأنت تتوقع طيران زر من أزرار دشداشته جراء كرشه الذي امتلأ بمالي ومالكم ومال ابني الصغير الخائف من سرطان يغزو صدر والده في ظل شبح سرطاني أخطر ينهش أوصال مستقبل بلده.