دخل البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير قاعة اجتماعات مجلس المطارنة الموارنة (الذي كان منعقدا كالعادة أول يوم أربعاء من كل شهر) ليبادر الحاضرين بالقول: «اليوم سيشارك في اجتماعنا العماد ميشال عون»، علامات الدهشة ظهرت على وجوه المطارنة أو أكثريتهم ممن لم يكونوا في أجواء هذا الاجتماع، وفوجئوا بالعماد عون يدخل القاعة مصافحا إياهم وجالسا عن يمين البطريرك صفير، لتبدأ جلسة مصارحة ومكاشفة أفاض فيها عون في شرح سياسته ومواقفه في المرحلة السابقة وتصوره للمرحلة المقبلة، وكان فيها البطريرك صفير مستمعا أكثر منه متكلما، وفي الواقع، فإن هذا اللقاء كان له وقع المفاجأة أيضا خارج بكركي واكتسب صفة الحدث السياسي بامتياز محولا الأنظار من قصر بعبدا حيث كانت تعقد جلسة اقرار البيان الوزاري الى بكركي حيث كانت تفتح صفحة جديدة بين صفير وعون بعدما كانت العلاقة وصلت الى أدنى مستوياتها وبلغت وضعا غير مسبوق من التوتر والتشنج.
هذا اللقاء لم يكن «ابن ساعته» وانما سبقته تحضيرات واتصالات ولقاءات بعيدا عن الأضواء، وجرى أبرزها في منزل النائب ابراهيم كنعان في قرنة شهوان بحضور العماد عون وعدد من المطارنة.
كما كان للوزير جبران باسيل دخول على خط هذه الاتصالات وكانت له زيارة مهمة وسرية الى الصرح البطريركي قبل زيارة البطريرك صفير الى روما شرح في خلالها بالتفصيل وبالأرقام والوقائع مواقف عون ومنطلقاته وأهدافه.
وحول هذا اللقاء الاستثنائي شكلا ومضمونا يمكن ايراد الملاحظات والمعلومات التالية:
1- حضور عون اجتماع مجلس المطارنة يشكل «سابقة» في بكركي، اذ لم يسبق ان شارك في اجتماع مجلس المطارنة مسؤول رسمي أو سياسي، كان للرئيس الراحل رفيق الحريري لقاء خاص ومطول في بكركي مع عدد وافر من المطارنة ورؤساء الرهبانيات ولكن هذا الاجتماع حصل خارج نطاق اجتماع مجلس المطارنة.
3- جدول أعمال اللقاء كان حافلا بالموضوعات الوطنية والسياسية الحساسة والدقيقة التي تشكل مصدر قلق متعاظم للكنيسة وسببا لخلاف متفاقم بين بكركي والرابية، ومن هذه المسائل وفي مقدمتها سلاح حزب الله والعلاقة معه ومسألة الغاء الطائفية السياسية والعلاقة مع الطوائف اللبنانية والهجرة المسيحية ودور الموارنة في لبنان ودور لبنان في المنطقة، والمشاركة المسيحية في الدولة وملف العلاقات والمصالحات المسيحية، اضافة الى الأوضاع والسياسات الاقتصادية والتربوية والاجتماعية والمالية.
4- المسألة التي سجلت أكبر مساحة تلاق وتفاهم هي مسألة الطائفية السياسية التي لا يمكن طرحها حاليا ولو من باب تشكيل الهيئة الوطنية التي يلزمها تشاور ونقاش هادئ ومسبق وتوافر ظروف ومناخات داخلية مساعدة وملائمة، فيما الوضع الآن في ذروته الطائفية، وكان عون واضحا في انه لا يقبل أي مس بالأوضاع والمكتسبات المسيحية تحت أي ظرف من الظروف، وان أحدا لا يزايد عليه مسيحيا مذكرا بأنه سارع في الطلب من الرئيس بري سحب هذا الموضوع، أما المسألة التي سجلت نقطة التباين والاختلاف الأساسية فهي مسألة سلاح حزب الله ودوره، وهنا جهد عون في شرح موقفه وأسهب في ذلك معتبرا ان للسلاح وظيفته الاقليمية في الصراع مع اسرائيل وهو أكبر وأشمل من ان يتم احتواؤه لبنانيا، وهو ورقة قوة في يد لبنان لردع اسرائيل وورقة تفاوض أساسية وربما وحيدة في يده عندما يحين أوان السلام الشامل والبت في موضوع اللاجئين، وهو ضمانة في وجه خطر التوطين الفلسطيني الذي صار واقعا، وتوقف عون عند التفاهم الموقع بينه وبين حزب الله والذي انعكس استقرارا وأمانا للمسيحيين، كما توقف عند انتصارات المقاومة وانجازاتها وأهمية بناء علاقة ثقة وتفاهم مع الطائفة الشيعية كما مع باقي الطوائف، ولكن موضوع «السلاح» ظل موضوعا خلافيا وظل كل طرف متمسكا بموقفه: المطارنة متمسكون بضرورة حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية، وعون متمسك برأيه ان السلاح مرتبط بظروف اقليمية ودولية وليس للاستعمال الداخلي، فيما برز تفهم لدى المطارنة بالنسبة لورقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر وأهدافها ونتائجها.
4- اللقاء الذي سادته أجواء ايجابية أدى عمليا الى طي صفحة التوتر والتصادم في العلاقة بين عون وبكركي، والى ارساء آليات وقواعد جديدة للعلاقة لتفادي سوء تفاهم جديد، ولكنها لم تؤد الى فتح ملف المصالحات المسيحية، العماد عون في احتكامه الى مرجعية بكركي والى نمط جديد للعلاقة معها يكون قد قام بخطوة سياسية متقدمة ونوعية في سياق عملية اعادة تموضع سياسي باشرها أخيرا في اتجاهات عدة أبرزها جنبلاط والحريري، ولكن جملة مفارقات هنا أولاها ان حركة عون مازالت مغلقة على المجال المسيحي، وان التحسن في وضعه السياسي يقابله تراجع في وضعه التنظيمي، وان الضغوط السياسية عليه تضطره للخروج من الرابية وأخذ مبادرات في أكثر من اتجاه، وأحيانا في اتجاه حلفائه.