- تكريس النظام الرئاسي والسيطرة على الحكم والدولة
- «تجديد شباب الحقبة الأردوغانية» و«رد اعتبار الدور الإقليمي»
تتجه الأنظار الى الانتخابات التركية التي ستجري بعد غد الأحد (24 يونيو)، وقبل نحو عام من موعدها الطبيعي، بوصفها حدثا مفصليا وستؤثر نتيجتها في مستقبل تركيا خلال السنوات الـ 5 المقبلة على الأقل.
وهي الانتخابات الأولى التي ستجسد انتقال تركيا الفعلي من النظام البرلماني التشريعي إلى النظام الرئاسي التنفيذي، ما يكسبها أهمية قصوى في تحديد صورة الوضع السياسي التركي في هذا الانتقال المفصلي، الذي حمل معه انتخابات ثنائية ومعقدة، بل مثيرة، لكونها ستشمل انتخاب رئيس للجمهورية، وانتخاب أعضاء البرلمان البالغ عددهم ٦٠٠ عضو في الوقت ذاته، وللمرة الأولى في تاريخ تركيا الحديث.
الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان سيخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة مرشحا عن «تحالف الشعب»، الذي يضم أحزاب «العدالة والتنمية» الحاكم، والحركة القومية، و«الوحدة الكبرى»، فيما يخوضها من طرف المعارضة «تحالف الأمة» الذي يضم حزب «الشعب الجمهوري» والحزب «الصالح» وحزب «السعادة»، وحزب «الشعوب الديموقراطي» وحزب «الوطن».
أما الانتخابات البرلمانية، فيخوضها «تحالف الشعب» بقائمة مشتركة، فيما اتفق كل من حزب «الشعب الجمهوري» والحزب «الصالح» وحزب «الوطن» على خوضها بقائمة موحدة ضمن «تحالف الأمة».
أما حزب «الشعوب الديموقراطي» فسيخوضها بقائمة خاصة به.
وبينما تعكس المعارضة حالة سأم عامة إزاء سيطرة الرئيس المطلقة على البلاد، وتحاول اللعب على هذه الورقة لتحقيق نتائج ملموسة في الانتخابات، يبني أردوغان على تجربة دامت ١٦ عاما في الحكم، ويبدو أنه متمسك أكثر من أي وقت مضى، بإثبات أنه قادر على السير بتركيا إلى وضعية جديدة حتى عام ٢٠٢٣، تاريخ مئوية تأسيس الجمهورية، فيكون عراب مستقبلها.
كان حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، - كما جاء بمقال في جريدة الحياة اللندنية - والذي يقود العملية السياسية في تركيا منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، قد نجح في تحقيق 3 إنجازات كبرى مكنته من الهيمنة على الحياة السياسية والحزبية في تركيا دون انقطاع طوال هذه الفترة:
- الأول: استقرار سياسي أدى إلى ترسيخ دعائم النظام الديموقراطي بالتزامن مع تراجع دور المؤسسة العسكرية التي كانت قد دأبت على القيام بانقلابات دورية على الحكومات المنتخبة ديموقراطيا (بواقع انقلاب كل عشر سنوات تقريبا في 1960، 1971، 1980، 1997).
- الثاني: ازدهار اقتصادي أدى إلى تحول تركيا إلى قوة اقتصادية واعدة، بعد أن أصبحت واحدة من أكبر القوى الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وأهمها، وبدأت تلج ساحة المنافسة على مواقع متميزة على قمة النظام الاقتصادي العالمي.
- الثالث: استعادة هوية ثقافية وحضارية كانت قد فقدتها، هي الهوية الإسلامية العثمانية، وذلك بعد سنوات طويلة من علمانية معادية للدين بدت خلالها تركيا كأنها حسمت قضية الهوية فيها نهائيا وإلى الأبد لمصلحة الانتماء إلى الحضارة الأوروبية الغربية.
وحين جاءت ثورات «الربيع العربي»، حاملة جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في عدد من الدول العربية عبر موجاتها الأولى، بدا النظام التركي حينذاك، بإنجازاته التاريخية الباهرة، نموذجا يحتذى من جانب شعوب عربية ثائرة وباحثة عن التغيير، بالتالي مؤهلا في شكل طبيعي لقيادة المنطقة إلى بر الأمان.
هنا بلغت طموحات أردوغان العثمانية نقطة الذروة، خصوصا انها بدت متناغمة مع طموحات دول أوروبية كثيرة راغبة في كبح جموح التطرف الإسلامي والساعية إلى بقاء منطقة الشرق الأوسط ليبرالية الهوى وأطلنطية في ارتباطاتها السياسية في الوقت ذاته.
غير أن الانتكاسة التي شهدتها تلك الثورات، خصوصا بعد سقوط حكم جماعة «الإخوان» في مصر وصمود النظام السوري عقب تدخل روسيا عسكريا إلى جانبه، سرعان ما أطاحت هذه الطموحات ونحتها جانبا.
وحين وقع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، بدا نظام أردوغان ذاته في مهب الريح وغير قادر على الصمود في وجه ما اعتبره البعض «ثورة مضادة» لإجهاض أحلام الربيع العربي.
ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يبدو قرار أردوغان اللجوء إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة كأنه محاولة ليس فقط لتأكيد شرعية نظامه المنقوصة في الداخل التركي وإنما أيضا لاستعادة دور تركيا المتآكل على الصعيد الخارجي والولوج إلى حلبة المنافسة الإقليمية المحتدمة.
قيادة أردوغان - بحسب أحد مقالات «الشرق الأوسط» اللندنية - أدت إلى ظهور 5 أزمات جديدة:
٭ تتسم الأولى منها بطابع سياسي، ذلك أنه من خلال تركيزه السلطة في الرئاسة، أي في يديه - الأمر الذي استغرقت تركيا في أعقاب وفاة أتاتورك قرابة عقدين كي تتمكن من تعديله - تسبب أردوغان في إحداث خلل بالتوازن المؤسسي وتعددية المشهد السياسي التي جرى بناؤها منذ آخر انقلاب عسكري في ثمانينيات القرن الماضي.
٭ تتمثل الأزمة الثانية التي خلقها أردوغان في مسألة الهوية، والتي تجلت على نحو فاحش في إخفاق حكومات متعاقبة في أنقرة على امتداد 4 عقود في إقرار أسلوب تعايش مع الأكراد الذين يشكلون ١٥% على الأقل من سكان البلاد.
وفي البداية، نجحت حكومته في إبطال مفعول القنبلة الكردية المؤقتة عبر سلسلة من سياسات الاستيعاب والدمج.
بيد أنه في وقت لاحق حاول أردوغان التغلب على المشكلة عبر تقسيم الأمة إلى هويات عرقية متنوعة يصبح في إطارها الأكراد مجرد هوية واحدة من هويات كثيرة، الأمر الذي تسبب في إخفاق السياسات الواعدة الأولى.
٭ تتعلق الأزمة الثالثة بالتطلعات التركية في أعقاب نيل العضوية الكاملة بالاتحاد الأوروبي.
تبدو تركيا أبعد عن هذا الهدف أكثر من أي وقت مضى.
وتتفق جميع الأحزاب تقريبا التي تخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة أن الطريق إلى أوروبا مسدود، على الأقل على امتداد المستقبل المنظور.
٭ خلق أردوغان أزمة رابعة على صعيد علاقات تركيا مع دول حلف «الناتو» وخاصة الولايات المتحدة.
وأسفر ذلك عن موقف سريالي تغزو في إطاره قوات تركية سوريا بصورة أثارت في لحظة ما المخاوف من الدخول في صدام مباشر مع القوات الأميركية التي تعاون الأكراد السوريين على تعزيز سيطرتهم على مناطق بعينها.
ونتيجة تورطه في سورية، وجد أردوغان نفسه مجبرا على محاولة التودد إلى الروس الذين شكلوا عنصرا فاعلا مهما هناك.
وأدى ذلك بدوره إلى توسيع الفجوة بين تركيا من ناحية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى.
٭ أخيرا، خلق أردوغان أزمة خامسة ذات طابع اقتصادي، من خلال خلق سحابة من الشكوك فوق الخيارات السياسية التي قد يتخذها بمجرد فوزه في الانتخابات.
ومن غير المثير للدهشة أن نجد تراجعا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى أدنى مستوياتها منذ عام ٢٠١٠.
بينما فقدت العملة التركية، الليرة، قرابة ثلث قيمتها مقارنة بسلة العملات العالمية، ويعتبر معدل النمو السنوي للاقتصاد التركي حسبما توقع البنك الدولي الأدنى منذ عام ٢٠٠٨ في ظل تنامي المخاوف من حدوث ركود.
3 عوامل ساعدت في وصول تركيا إلى هذا المفترق:
- الأول: داخلي، يتعلق بتأثير التحولات الناجمة عن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بخاصة ما يتعلق منها ببنية النظام ودخول قضية الهوية طرفا في صلب العملية السياسية الجارية في تركيا منذ فترة ليست بالقصيرة.
- الثاني: إقليمي، يتعلق بتأثير التحولات التي طرأت على النظامين العربي والشرق أوسطي، بخاصة عقب اندلاع ثورات «الربيع العربي».
- الثالث: دولي، يتعلق بتأثير التحولات التي طرأت على نظام دولي يبدو في حالة سيولة خطرة، خصوصا بعد قرار روسيا التدخل عسكريا في الأزمة السورية ووصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية.
استقطاب سياسي غير مسبوق
وسط هذا التنوع المعارض، يواجه أردوغان للمرة الأولى منذ عام ٢٠٠٣ هذا الحجم من المنافسة، علما بأن الاستقطاب السياسي الداخلي ترك ظلالا مبهمة على تركيبة التحالفات السياسية التركية المستجدة، لكونها أفضت إلى أشكال جديدة ومتنافرة من التحالفات الانتخابية، التي قد تكون مرحلية وهشة ولا تدوم طويلا، إذ إن «تحالف الشعب» يضم عناصر يمينية ويسارية ومتدينة.
أما «تحالف الأمة»، فيضم تيارات أيديولوجية متنافرة، علمانية وقومية، وتوجهات ليبرالية يمينية، إضافة إلى حزب «السعادة» ذي التوجه الإسلامي، ما يعني أن «تحالف الأمة» لا تملك أحزابه رؤية سياسية موحدة، والأهم عدم امتلاكها رؤية مقنعة للناخب التركي، بغية تشكيل بديل يخلف حكم حزب «العدالة والتنمية»، إضافة إلى أن تركيا دخلت مرحلة النظام الرئاسي بعد تغيير مواد دستورها بصورة مؤسسية في استفتاء ١٦ أبريل ٢٠١٧.
الملاحظ أن هناك افتراقا كبيرا في السيناريوهات السائدة والمتداولة في المشهد السياسي التركي بين النتائج المحتملة للانتخابات الرئاسية وبين نتائج انتخابات البرلمان المحتملة أيضا، التي ستجرى في اليوم ذاته، إذ إن سيناريوهات الانتخابات الرئاسية تحصر المنافسة بين أردوغان وبين أحد المرشحين المعارضين الأقوياء، الذي قد تكون رئيسة حزب «الصالح (الخير)» ميرال إكشنار أو محرم إينجه (حزب «الشعب الجمهوري»)، ومعظمها يرجح خوض أردوغان جولة ثانية ضد أحدهما، وفي هذه الحال سيحتاج مرشح المعارضة إلى دعم كل أحزاب المعارضة معه، ومشاركة كثيفة من ناخبيها في الجولة الثانية، كي يمتلك فرصة للفوز بكرسي الرئاسة.
ووقتها سيكون الأمر مربكا بالنسبة إلى إكشنار زعيمة الحزب «الصالح» التي لن تصوت لها غالبية الناخبين الأكراد، وكذلك للمرشح إينجه ولو بدرجة أقل، ما يعني أن حظوظ أردوغان بالفوز بالرئاسة من جديد كبيرة.
أما سيناريوهات الانتخابات البرلمانية، فأغلبها يرجح ويتوقع نشوء برلمان تعددي في تركيبة مختلفة كليا عن تركيبة البرلمان الحالي، ذلك أن أحزاب ائتلاف الأمة المعارض ستحظى جميعها بتمثيل في البرلمان، ويعود ذلك إلى أن تحالفها وخوضها الانتخابات بقائمة موحدة سيمكنها من إسقاط حاجز الـ 10% الدستوري لدخول البرلمان، في حين أن هذا الحاجز سيهدد حزب «الشعوب الديموقراطي» فقط، لكونه اختار خوض الانتخابات البرلمانية بقائمة خاصة به.
ويخشى أردوغان من سيناريو يفضي إلى دخول جميع الأحزاب السياسية إلى البرلمان التركي، على حساب خسارة الحزب الحاكم غالبيته المطلقة، ما يعني أن أردوغان في حال فوزه بالرئاسة سيكون مضطرا للتعايش مع برلمان تسيطر على غالبيته أحزاب المعارضة.
هذه الانتخابات، ومثلما هي عامل تحد ودافع لأحزاب المعارضة، هي أيضا تحد حقيقي لأردوغان، لأنها تجسيد لصراعه الداخلي وتجربته في الحكم، وطموحه الخاص بأن يكون «أبا» الهوية التركية الجديدة (على غرار مصطفى كمال، «أبي» تركيا).
كما هي الجواب المنتظر عن سؤال حول ما إذا كان الشعب سيعيد اختياره بزخم الماضي نفسه، ويمنحه الثقة الكاملة للعبور به إلى «تركيا الجديدة».
ثمة إجماع يظهر في الأفق حول ضرورة النظر إلى هذه الانتخابات باعتبارها استفتاء على رجب طيب أردوغان، الرجل الذي هيمن على الحياة السياسية للبلاد طيلة عقدين تقريبا.
غالبا ما تفاخر أردوغان بأنه لم يخسر انتخابات قط، وتشير استطلاعات الرأي إلى أنه من غير المحتمل أن يخسر هذه المرة أيضا.
منذ عام ٢٠٠٢، فاز هو وحزب العدالة والتنمية في 5 انتخابات برلمانية وثلاثة انتخابات محلية و3 استفتاءات شعبية وانتخابات رئاسية واحدة.
لكن ماذا لو أن النصر الذي ينتظره الأسبوع المقبل يتحول إلى فوز تكتيكي وخسارة استراتيجية؟
فوز أردوغان في هذه الانتخابات سيؤدي ليس فقط إلى إعادة تجديد شباب حقبة أردوغانية كانت قد بدأت تظهر عليها أعراض الشيخوخة، ولكن أيضا إلى تحويل تركيا إلى رقم صعب في نظام دولي يتسم بقدر كبير من السيولة وعدم اليقين.
أما خسارته إياها فسوف يؤدي ليس فقط إلى تحويل هذه الحقبة إلى مجرد جملة اعتراضية في تاريخ حافل، وإنما أيضا إلى تفاقم الصراعات داخل الدولة والمجتمع في تركيا، وربما تحولها سريعا إلى حرب أهلية، تركيا بعد هذه الانتخابات ستكون مختلفة كثيرا عما كانت عليه قبلها: لاعب إقليمي ودولي أشد بأسا وثقة في النفس، أو دولة قابلة للانزلاق سريعا نحو مصير الدول الفاشلة ذاته في المنطقة، وهي كثيرة.