لا سياسة في لبنان هذه الأيام، الملف السياسي منكفئ لمصلحة الملفين الاقتصادي والصحي، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة المزدوجة التي يخوضها لبنان حاليا: المعركة ضد وباء «كورونا»، ومعركة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.. وبالتالي من المستبعد حدوث تطورات سياسية دراماتيكية أو تحولات بارزة وجذرية. فلا جبهة جديدة للمعارضة ولا تحالفات ثلاثية ورباعية مستوحاة من روحية وحقبة 14 آذار، ولا لقاءات مصالحة مارونية تحت سقف بكركي ولا عودة الى صيغة «الأقطاب الأربعة» التي اعتمدها البطريرك بشارة الراعي في بداياته.. لا اشتباكات سياسية حادة وإنما نزوع الى تهدئة اللعبة وخفض التوتر، مع تمديد فترة السماح والفرصة المعطاة للحكومة لأشهر إضافية.. ثمة ترقب لما يدور في المنطقة، وخصوصا في سورية والعراق، في الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي تبدو أشبه بـ «حكومة حرب». ورغم المسافة البعيدة الفاصلة عن الاستحقاقات الدستورية والسياسية، جرى عمليا فتح ملف الاستحقاق الرئاسي، في وقت لا يأتي أحد على ذكر الاستحقاق النيابي الذي يتقدم زمنيا، بعدما سقطت نظرية وفرضية الانتخابات النيابية المبكرة وسحبت من التداول.
المشهد السياسي في لبنان يمكن اختصاره على النحو التالي:
1 ـ كشفت تجربة المائة يوم الأولى من عمر الحكومة عن ثنائية منسجمة بين رأسي السلطة التنفيذية، وعن تحالف سياسي بين رئيسي الجمهورية والحكومة. حسان دياب الذي يتصرف من خلفية أنه رئيس الحكومة حتى آخر العهد وربما ما بعده وليس رئيس حكومة مؤقتة وظرفية، ليس أمامه إلا التعاون مع عون في موازاة «احتمائه واستقوائه» بحزب الله.. وعون لديه مصلحة في استمرار دياب لأنه لا بديل عنه إلا عودة سعد الحريري، ولأن سقوط الحكومة في هذا الظرف سيكون سقوطا عظيما، وربما أدى الى سقوط العهد برمته.
2 ـ ثمة علاقة متينة وراسخة بين دياب وحزب الله، مع أنها علاقة خفية ولا تظهر للعيان. ويبدو أن دياب نجح في امتحان الحزب وكسب ثقته ودعمه، وإذا كان رئيس الحكومة هو في نظر الكثيرين الحلقة الأضعف في الحكم، فإنه في نظر الحزب هو الأقوى والأهم حاليا، ومعه تحولت السراي الحكومي الى مركز الحركة والقرار، ومعه تحقق تناغم وانسجام في الأجندة لم يكن موجودا أيام الحريري.. وفي المقابل، فإن دياب الذي يعاني من حصار سياسي من القوى السياسية المتضررة منه والمتربصة به، ويعاني من عزلة ومقاطعة طائفته السنية، لا يجد أمامه إلا الارتماء أكثر في «أحضان الحزب» مستمدا منه قوة البقاء وعامل توازن في اللعبة.
3 ـ الرئيس سعد الحريري قلق سياسيا، ليس بسبب الظهور المفاجئ لشقيقه بهاء واقتحامه المسرح السياسي كمشروع بديل، وإنما بسبب حسان دياب لأن الأمور لا تمشي كما توقع. فما تصوره فشلا سريعا وذريعا لدياب لم يحصل. وما اعتقده امتيازا في العلاقة مع حزب الله وأنه المفضل لديه ليس ثابتا ومؤكدا بعد تحول دياب الى منافس ومزاحم جدي عند حزب الله الذي وجد في دياب «ضالته» ومعه حقق ما لم يستطع تحقيقه مع اللقاء التشاوري (السني) وعبره.
4 ـ الرئيس نبيه بري شريك أساسي في الحكومة، ولكنه يمارس عمليا دور المعارضة من داخل الحكومة ويحمي مصالح سعد الحريري ووليد جنبلاط ويخوض معاركهما ويتقاطع معهما في أكثر من معركة وواقعة. هذا ما حصل في موضوع التعيينات المالية، وفي التصدي المشترك لعملية إزاحة حاكم مصرف لبنان.. في الواقع يشكل بري صلة «وصل وفصل» بين الحكومة والمعارضة ويلعب دور «إدارة التوازن».
5 ـ وليد جنبلاط حدد تموضعه السياسي: خارج الحكومة من دون أن ينخرط في مشروع ومغامرة إسقاطها، ومن دون أن يكون في منأى عن لعبة المحاصصة فيها.. ومع المعارضة من دون أن ينخرط في جبهات سياسية جديدة تقيده وتحد من هامش حركته واستقلاليته.
جنبلاط قرر مهادنة العهد وليس واردا عنده الذهاب بعيدا في المواجهة مع حزب الله وأن يلعب دور رأس الحربة كما فعل في العام 2005 ضد النظام السوري، أما «الأولويات الهواجس» لديه، فهي ثلاثة: الحفاظ على الأمن السياسي في الجبل تحت مظلته ومرجعيته، والحفاظ على مواقعه في الدولة بما يضمن استمرار زعامته ويبقيه الممثل الشرعي الأول والى حد ما الأوحد للطائفة الدرزية، وتأمين ظروف توريث تيمور جنبلاط بطريقة سلسة وفاعلة، بعدما تبين أن تيمور ليس جاهزا لتولي مقاليد الزعامة وخوض المعترك السياسي كما يجب.
6 ـ سمير جعجع حقق في الآونة الأخيرة تقدما بالنقاط وتحسنا ملحوظا في الأداء السياسي. رئيس حزب القوات اللبنانية لم يقاطع اجتماع بعبدا وشارك فيه من موقع المعارض، ولم يفتح النار على حكومة دياب ويعلنها معركة مفتوحة، وإنما أعطاها فرصة غير مفتوحة.. ولم يتحمس لفكرة ومشروع التحالف الثلاثي مع الحريري وجنبلاط لمجرد أنه لا يثق في أنهما يكملان المواجهة حتى النهاية، ولا يديران ظهرهما عندما تلوح لهما فرصة اقتناص تسوية ومكاسب.. فمن يضمن ألا يكون مشروع الحريري وجنبلاط بالتفاهم مع بري هو إزاحة دياب ليعود الحريري الى مكانه، وإزاحة ميشال عون ليجلس سليمان فرنجية مكانه؟!
6 ـ جبران باسيل «يكافح» سياسيا للبقاء في معادلة التأثير وفي دائرة الضوء، ولإنقاذ مشروعه الرئاسي، بعدما كان المتضرر الأكبر من أحداث الستة أشهر الماضية على المستويين الشعبي (بعد ثورة 17 اكتوبر) والسياسي (بعد خروجه من الحكومة).
7 ـ حزب الله يواجه وضعا إشكاليا. فمن جهة حقق وضعا متقدما على المستوى السياسي ووصل الى نقطة الذروة مع رئيس جمهورية حليف وأكثرية برلمانية وحكومة موالية.. ومن جهة يواجه ضغوطا كبيرا ويجد نفسه معنيا بنتائج وتداعيات الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وتلاحقه الاتهامات بأنه يعمل على تغيير وجه لبنان الاقتصادي وهويته السياسية وإلحاقه بمحاور إقليمية ودولية، كما يجد نفسه مطوقا بضغوط أميركية وتصنيفات دولية وتهديدات إسرائيلية، ووسط بيئة إقليمية استراتيجية غير مؤاتية، أو على الأقل ليست مريحة كما كانت عليه من قبل.