سبعة وعشرون سنة قضاها في الحبس، وقبل أن يتنسم هواء الحرية قال: إذا خرجت من السجن في نفس الظروف التي اعتقلت فيها فإنني سأقوم بنفس الممارسات التي سجنت من أجلها. إنها إرادة رجل أفنى حياته في مكافحة التمييز العنصري، وحكمة ثائر لم تسقط من ذاكرته معاناة شعبه، معبرا عن ضمير الأمة بقوله: العظمة في هذه الحياة ليست في التعثر، لكن في القيام بعد كل مرة نتعثر فيها. لم يعرف نيلسون مانديلا الاستسلام للقهر، تمسك بحق شعبه في حريته متحدثا لكل شعوب الأرض، يدعوهم للتمسك بعزيمة النضال من أجل الحرية، التي وصفها قائلا: الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حرا أو لا يكون حرا، وفي تحريضه على الكفاح والحث على استمرارية النضال كانت واحدة من أقواله المأثورة وقودا للثورة على القهر والظلم، فعبر عنها بصوته: ان الانسان الحر كلما صعد جبلا عظيما وجد وراءه جبالا أخرى يصعدها، ووضع نصب عينيه دائما ان الحركة الثورية يجب الا تكون بمعزل عن ماضي وذاكرة الشعوب، فقال: ان التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل. لم يعرف في شبابه ولا كهولته إلا الصمود والحراك الدؤوب، فجعل من كلماته الثورية فلسفة لاستمرار التطلع للتقدم نحو الأفضل، حيث تحدث عن نفسه يردد: إني أتجول بين عالمين، أحدهما ميت والآخر عاجز أن يولد، وليس هناك مكان حتى الآن أريح عليه رأسي.
انه نيلسون مانديلا الذي يلقب بأيقونة الكفاح ضد العنصرية، لنضاله ضد عمليات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وله مواقف ثورية داخل بلاده وخارجها، حيث شغلته دائما قضايا حريات الشعوب، ولم تكن دول الربيع العربي بمنأى عن اهتماماته، خاصة مصر التي بعث إليها برسالة في شهر يوليو العام الماضي.
جاء في رسالته الى ثوار مصر: تقديم اعتذاره إذا كان قد سمح لنفسه الخوض في شؤون غير شؤونه، لكنه رأى أن واجبه تقديم النصح للثوار، معتبرا أنه يرد الجميل للمساندة التي وجدها من الشعب المصري في محنته إبان فترة سجنه، ويخاطب ثوار مصر بكلمة «أحبتي»، ليصف الشعب المصري أنه خرج من سجنه الكبير، ويتساءل بحكمة فيقول: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم محله العدل؟ ومن يدقق النظر يجد مانديلا يستخدم ضمير المخاطب الجماعي معتبرا نفسه واحدا من المصريين بقوله «كيف سنتعامل» ويضيف أن إجابة السؤال ستحدد طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه الثورات، ويضيف: ان إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، وكأن الثائر «مانديلا» يعيش بين شعب مصر الآن، ويستطرد بقوله: ان الهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي، ناصحا ثوار مصر بالتحلي بالخلق وعدم تضييع الوقت، ولا ينفي تفهمه لحالة الأسى التي تعتصر قلوب الشعوب التي عانت من مرارة الظلم.
بسبب متاعبه، ابتعد مانديلا عن الإعلام والسياسة، ليعيش في هدوء، وبدأ المرض يدخل إلى جسده بين حين وآخر، وفي الأيام القليلة الأخيرة اشتدت به الآلام، وتم نقل الرجل الذي يبلغ من العمر 93 عاما إلى المستشفى، وليس من المعروف المدة التي سيستغرقها علاجه، أم سيقول القدر كلمته الفاصلة وينتقل مانديلا إلى صفحة بيضاء في ذاكرة التاريخ؟