بعد سلسلة التطورات الإيجابية على المستوى الدولي والإقليمي في الشهرين الماضيين التي أعقبت تبدد خطر الحرب في المنطقة، بدءا من الاتفاق الأميركي ـ الروسي حول سورية الذي كان من نتائجه فتح الطريق أمام «جنيف ـ 2»، وصولا الى الحوار الأميركي ـ الإيراني حول الملف النووي، سادت في لبنان توقعات بحدوث انفراجات واسعة تقود الى وضع حد للأزمة السياسية المتمادية عبر خارطة طريق تبدأ بتشكيل حكومة شراكة جديدة وتتضمن تباعا انتخابات رئاسية ونيابية العام المقبل، ولكن حدث تراجع وانحسار في هذه التوقعات وعادت أجواء القلق والحذر والترقب بسبب الغموض الذي يكتنف مصير «جنيف ـ 2» والشكوك الواسعة بانعقاده ونضوج ظروفه وبإمكان نجاحه إذا عقد، وبسبب حالة الارتباك التي تميز السياسة الأميركية في الشرق الأوسط واحتدام الصراع بين دول المنطقة، وبالإجمال يمكن الحديث عن ثلاثة «هواجس مخاطر» يدور لبنان حاليا في فلكها ويقع تحت تأثيرها ووطأتها وهي:
1 - هاجس النزوح السوري مع توقع موجة جديدة وكبيرة في غضون الأسابيع والأشهر المقبلة، ففي ضوء مؤشرات متزايدة الى عثرات وعقبات تعوق انطلاق «جنيف ـ 2» الذي يتأرجح بين التأجيل والإلغاء نهائيا، انحسرت التوقعات القائلة باقتراب نهاية الأزمة السورية وتقدمت التوقعات القائلة بأزمة طويلة ومسار طويل ومعقد للمفاوضات والعملية السياسية إذا قدر لها أن تنطلق، وبجولات عنف أشد وأقسى من قبل لأن أعنف المعارك هي التي تكون الأقرب الى النهايات والتسويات وتكون معارك تحسين الشروط والمواقع التفاوضية.
وما يعني لبنان في الجولة المقبلة من القتال أنها ستكون مركزة في المناطق السورية القريبة من حدوده خصوصا مع الحديث عن تحضيرات معركة القلمون، وفي هذه الحال فإن اشتداد المعارك في هذه المناطق الممتدة من درعا الى ريف دمشق ومن القلمون الى حمص والتي يقطن فيها 60% من سكان سورية، سيؤدي الى موجة نزوح كبيرة وبالآلاف الى لبنان الذي كان وصل هذا العام الى درجة متقدمة من الضغوط والأعباء الناجمة عن النزوح السوري العشوائي لم يعد معها قادرا على التحمل والتصريف بعدما استنفدت طاقته الاستيعابية وتجاوزت الأزمة قدراته وإمكاناته وبدأت تنتج آثارا وتداعيات سلبية على المستويات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة الى المستوى الديموغرافي، لأن النزوح أدى الى تعديل في الخارطة السكانية والى الإخلال بتوازنات دقيقة طائفية ديموغرافية يقوم عليها الكيان اللبناني.
2 - احتدام الصراع السني ـ الشيعي في لبنان كنتيجة طبيعية لاحتدامه في المنطقة وعلى مساحة جغرافية مترامية الأطراف تمتد من العراق وسورية الى اليمن والبحرين، ولبنان أصبح جزءا من هذا الصراع الإقليمي، لا بل تحول الى خط تماس أساسي مع وجود قوى لبنانية أساسية لديها علاقات وارتباطات وثيقة مع إيران والسعودية وتشكل امتدادا لسياستها ومصالحها على الأرض اللبنانية.
هذا الصراع السني ـ الشيعي أخذ خلال هذا العام أشكالا أمنية في بؤر توتر توزعت بين الجنوب (صيدا) والبقاع (عرسال) والشمال (طرابلس) والعاصمة (الضاحية الجنوبية) مازال مفتوحا على تطورات سلبية ومخاطر كامنة في طرابلس، حيث وصل التوتر الطائفي الى ذروته في أعقاب التطورات الأخيرة (تفجيرات طرابلس التي اتهم بها الحزب العربي الديموقراطي العلوي)، ومذكرة التوقيف بحق رئيس الحزب علي عيد والتعديات على عمال جبل محسن وحالة شبه الحصار المفروض على «الجبل» مع انقطاع التواصل الاقتصادي الاجتماعي، ما أدى الى تقويض الخطة الأمنية الأخيرة واستنفادها سريعا وبروز خطر جولة جديدة من القتال إذا وقعت ستكون الأعنف والأخطر والأوسع هذه المرة، والى طرابلس التي جرى ربطها بطريقة غير مفهومة بمعركة القلمون المفترضة، تضاف عرسال النقطة الساخنة المعنية مباشرة بنتائج هذه المعركة إذا وقعت، إذ يخشى أن تترافق موجة النزوح السكاني مع هروب وتسلل مقاتلي المعارضة السورية من هذه المنطقة الى منطقة عرسال، مع ما يعنيه ذلك، وفي ضوء مشاركة مرتقبة لحزب الله في معركة القلمون وبمهمة إقفال الحدود اللبنانية ــ السورية، من احتمال تمدد هذه المعركة الى الأراضي اللبنانية في جرود عرسال ومحيطها، واحتمال انتقال الشرارة المذهبية الى مناطق بقاعية ولبنانية أخرى.
وما يبعث على القلق أكثر أن التوترات الأمنية، التي تصاحبها عودة هاجس التفجيرات الى الضاحية الجنوبية في فترة إحياء ذكرى عاشوراء، تجري في ظل وضع سياسي مقفل ومسدود الأفق وسببه الأول احتدام الصراع السني ـ الشيعي الذي وصل الى الدولة ومؤسساتها الدستورية وكانت النتيجة أن الأمور لم تقف عند حدود مجلس نيابي ممدد له وحكومة تصريف أعمال، وإنما تجاوزتها الى «مجلس لا ينعقد وحكومة لا تجتمع» أي الى تعطيل كامل وفراغ مدو مرشح لأن يكتمل عقده مع «الفراغ الرئاسي»، فإذا حصل هذا الفراغ، صار الصراع السني ـ الشيعي مباشرا وحادا أكثر مع غياب رئاسة الجمهورية كمساحة سياسية عازلة وعامل توازن.
3 - تصاعد الأزمة السياسية وصولا الى الفراغ الرئاسي، وحيث إن كل المؤشرات تدل الى أن لا حكومة جديدة في المدى المنظور بعدما «تمترس» كل طرف خلف موقفه وشروطه: حزب الله مع حلفائه لا يقبل بأقل من حكومة 9 – 9 – 6، وتيار المستقبل لم يعد يقبل حتى بحكومة 8 – 8 – 8 وعاد الى «الحكومة الحيادية» والى ربط مشاركته في الحكومة بانسحاب حزب الله من سورية والتزامه إعلان بعبدا.
وأما حكومة الأمر الواقع، فقد سقطت على يد وليد جنبلاط الذي كان صريحا بأنه في حال شكلت حكومة كهذه لفرضها كأمر واقع على القوى الممثلة فيها، فإنه سيسحب مع أمل وحزب الله وزراءه منها لتسقط قبل بلوغها عتبة البرلمان والثقة، ومن الطبيعي أن الرئيس ميشال سليمان لا يريد «حكومة أزمة» وحكومة لا تنال الثقة، ولذلك فإن زيارته الى السعودية تتم في ظروف صعبة إذا كان عنوانها الملف الحكومي لأنه لا يريد أن يصطدم بالسعودية إذا لم يتجاوب مع موقفها ولا أن يفتح مشكلة مع حزب الله إذا تجاوب.
الاتفاق على حكومة جديدة هو المفتاح الى الاتفاق على رئيس جديد للجمهورية، وإذا كان متعذرا الاتفاق على حكومة جديدة سيكون من الصعب الاتفاق على رئيس جديد يسمى «الرئيس التوافقي»، وفي هذه الحال يصبح الوضع محددا باحتمالين: التمديد للرئيس ميشال سليمان أو الفراغ، وبما أن التمديد، حتى الآن، مازال يصطدم بفيتو فريق أساسي في البلد وتحديدا فريق 8 آذار بجناحيه الإسلامي (الشيعي) والمسيحي (الماروني)، فإن «شبح وهاجس الفراغ» يخيم من الآن على الاستحقاق الرئاسي ومعه ينفتح نقاش سياسي دستوري حول الحكومة التي تتسلم البلد وصلاحيات الرئاسة ومدى أهليتها وصلاحيتها إذا كانت مستقيلة وتصرف أعمالا أو إذا كانت حكومة جديدة لم تنل ثقة مجلس النواب.