«اللقاء الحواري» بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل اكتسب صفة «اللقاء الحدث». أولا لأنه اللقاء الأول من نوعه منذ العام 2005 ومجرد حدوثه وبغض النظر عن نتائجه هو أمر مهم، ويعد، في الشكل على الأقل، تطورا واختراقا سياسيا في الجدار السياسي المرتفع بين الطرفين.. وثانيا لأن الوضع اللبناني يعاني من حالة «جمود وخواء» سياسي تجعل من أي حدث بسيط وعادي حدثا هاما واستثنائيا ويجري تحميله أكثر مما يحتمل.
اللقاء عقد في ساحة النجمة، أي إن الطرفين التقيا في مكان ثالث مشترك ولم يذهب أحدهما إلى الآخر، وفي حين لفت في تركيبة وفد التيار الوطني الحر أنه اقتصر على نواب التيار دون نواب «تكتل الإصلاح والتغيير»، كان لافتا في تركيبة وفد المستقبل أنه كان منتميا إلى كتلة المستقبل النيابية منه أكثر من انتمائه التنظيمي إلى تيار المستقبل، وأنه اتسم بالتنوع الطائفي (مسيحيان (أوغاسبيان ومجدلاني) وسني (جمال الجراح) وشيعي (غازي يوسف).
وانتهى لقاء المصالحة والمصارحة بعد ساعتين من المداولات الودية والإيجابية إلى نتيجتين عمليتين محددتين هما:
٭ تطرية وترطيب أجواء العلاقة وكسر حدتها وإدخالها في «هدنة إعلامية».
٭ اتفاق على مواصلة اللقاءات وأن تكون هناك متابعة وتكملة لما بدأ.
في الواقع لا يهدف أي طرف ولا يطمح إلى أكثر من ذلك، وأي منهما ليست لديه أوهام ورهانات خارقة للواقع: فلا التيار الوطني الحر يخطط ويتطلع إلى تفاهم ثنائي على غرار تفاهمه مع حزب الله، ولا تيار المستقبل يريد إعطاء هذا التقارب أفقا رئاسيا ليكون إشارة انطلاق في مسيرة تنسيق وتعاون حول الاستحقاق الرئاسي المقبل طالما أن التنسيق والتعاون حول الاستحقاق الحكومي غير حاصل.
ولقد أظهرت وقائع النقاشات والمداخلات أن هناك فجوة سياسية يصعب ردمها نظرا لحجم الخلاف القائم حول ملفات أساسية في الداخل وأيضا في ضوء الاختلاف الحاصل في الأولويات ومقاربة الأزمة الراهنة. فالتيار الوطني الحر يعطي أولوية حاليا لكسر حدة الأزمة التي تدور في حلقة مفرغة من الجمود والانتظار ويطرح نظريتين واقتراحين: نظرية واقتراح الفصل بين الأزمة السورية والوضع اللبناني فلا يجري ربط كل شيء في لبنان بسورية ولا يكون لبنان قابعا في غرفة انتظار انتهاء الأزمة هناك وتحت رحمتها.. ونظرية واقتراح الفصل في لبنان بين السياسة والتشريع فلا يكون التشريع وإقرار القوانين المتعلقة بتسيير شؤون الدولة والناس وأحوالهم المعيشية متوقفا وخاضعا للتأزم السياسي.
وأما تيار المستقبل فإن أولوياته محددة في ثلاثة عناوين تحكم الربط بين الحرب السورية والملف اللبناني وبين أزمتي الحكومة والمجلس النيابي وهي: انسحاب حزب الله من سورية، والتزام إعلان بعبدا وتشكيل حكومة حيادية.
ما يخفف من شأن وأهمية حوار وتقارب التيار الوطني الحر والمستقبل أنه يجري من ضمن حوارات أخرى موازية يجريها «الوطني الحر» مع كتل نيابية حزبية أخرى تشمل «كتلة التحرير والتنمية أمل» و«جبهة النضال الوطني الاشتراكي»، ولاحقا كتلتي القوات والكتائب ولأول مرة من خارج لقاءات بكركي.
أما العلامة الفارقة في الحوار والتقارب العوني ـ الحريري فإنهما يحصلان في ذروة التوتر الشيعي ـ السيني وتحديدا بين حزب الله وتيار المستقبل اللذين يخوضان مواجهة سياسية إعلامية غير مسبوقة في حدتها الكلامية وفي مضمونها الاتهامي السياسي إلى درجة أن كلام حزب الله (على لسان النائب محمد رعد وفي بيان كتلة الوفاء للمقاومة) انطوى على لغة تهديد وتحذير وتلويح بالانتقال من الدفاع إلى الهجوم وقلب الطاولة، وأن رد المستقبل انطوى على «تسخيف» هذا التهديد ووصفه بـ «الهستيريا» وأنه علامة ضعف وخوف، لأن القوي يكون هادئا لا يخاف ولا يلجأ إلى التخويف.
السؤال المطروح في بيروت والأكثر إلحاحا من سؤال لماذا يتحاور نواب عون مع نواب الحريري، هو لماذا بادر حزب الله إلى التصعيد وخرج عن المألوف في خطابه السياسي؟
التفسير الذي تعطيه أوساط تيار المستقبل لـ «غضب وإحباط» حزب الله هو أن حزب الله محبط من مسار الوضع الإقليمي الذي نجحت السعودية في فرملته وإبطائه بعد عودة الحرارة إلى خطوط علاقتها واتصالاتها مع إدارة أوباما، وهو ما حال دون ترجمة التطورات الإقليمية مكاسب للحزب داخل لبنان. فحزب الله يعتبر منذ التفاهم الروسي – الأميركي على الكيماوي، وبدء الانفتاح الأميركي ـ الإيراني، أنه حقق تفوقا على الجبهة الإقليمية اللبنانية المعادية للنظام السوري، لا سيما بعد أن حقق هذا النظام تقدما على الجبهات خلال الشهرين الماضيين في شكل يضمن حماية دمشق من أي هجوم. ولا يعترف الحزب برمادية المرحلة، ويعتبر أن ارتياحه وحلفاءه لما تحقق دوليا وإقليميا وميدانيا، يجب أن يترجم لبنانيا، قبولا بخياراته للخروج من الفراغ الحكومي، ولمعالجة وسائل إدارة البلد. ويرى أنها الفرصة السانحة كي تنعكس قراءته لتفوقه مع حلفائه، على القرار اللبناني وفي الحكومة المقبلة إلا أن المرحلة الرمادية تدفع خصومه المحليين إلى الامتناع عن التسليم بقراءته للتحولات الحاصلة. وهذا ما يفسر، ربما، درجة التوتر العالي التي يتسم بها خطاب قادة الحزب، تجاه هؤلاء الخصوم.
وعلى المستوى الداخلي، لم يكن حزب الله مرتاحا وراضيا عن كلام جنبلاط وكان يتوقع منه كلاما أكثر وضوحا والتزاما. فجنبلاط أكد أنه باق في الموقع الوسطي وأنه متمسك بتمام سلام وسيعيد تسميته، وأن لا رئاسة جمهورية من دون المستقبل، مما يعني أن حزب الله لا يستند إلى أكثرية نيابية ولا يمسك بخيوط اللعبة السياسية كاملة ولا يتحكم لوحده في مسار ومصير انتخابات الرئاسة. يضاف إلى ذلك تمسك تيار المستقبل بموقفه الرافض لحكومة مع حزب الله قبل انسحابه من سورية، وتمسك الرئيس نجيب ميقاتي بالنطاق الضيق لتصريف الأعمال، وتوجه العماد عون إلى تنويع علاقاته وعدم حصرها في النطاق الشيعي.
أما التفسير الذي تعطيه أوساط حزب الله لـ «لهجته التصعيدية» فهو أن معلومات ومؤشرات توافرت بشأن عودة المستقبل بتشجيع ودعم خارجي إلى فكرة «حكومة أمر واقع» ستكون حكومة أزمة فعلية وعاملا مفجرا للستاتيكو السياسي والاستقرار الأمني خصوصا أن الوضع في طرابلس غير مطمئن بعد الأحداث الأخيرة التي رفعت درجة الاحتقان الطائفي المذهبي وأفرغت الخطة الأمنية من مضمونها. وتقول هذه الأوساط لـ «الأخبار» إن كتلة الوفاء للمقاومة ناقشت في اجتماعها أمس الأول هذه المواضيع وقاربت الوضع من زاوية إمكانية اندفاع فريق المستقبل وحلفائه وتهوره في مسألتين: الأولى تأليف حكومة أمر واقع بعد عودة الرئيس ميشال سليمان من السعودية، حيث الملف الحكومي على رأس جدول أعمال هذه الزيارة وهدفها المباشر، وبناء على مقايضة بين واشنطن والرياض تسهل الأخيرة بموجبها انعقاد مؤتمر «جنيف 2» مقابل موافقة الولايات المتحدة على طلب السعودية فرض حكومة في لبنان يستثنى منها حزب الله. أما المسألة الثانية فمرتبطة بالخشية من إقدام 14 آذار على عمل ما في طرابلس من شأنه تعريض السلم الأهلي في لبنان للخطر.