تفوح روائح الجبن الذائب داخل الكعك على الفحم وعرانيس الذرة والفول على عربات باعة متجولين أنهكتهم الأوضاع الاقتصادية ووجدوا مصدر رزق جديد لهم في وسط بيروت، حيث يتجمع بشكل يومي تقريبا آلاف المتظاهرين المحتجين على فساد الطبقة الحاكمة وعجزها عن حل الأزمات المعيشية المزمنة.
يتوافد الباعة إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح بدءا من السادسة من بعد ظهر كل يوم، أي في الوقت الذي يبدأ فيه تدفق المشاركين في الاحتجاجات غير المسبوقة المتواصلة في البلاد منذ 17 أكتوبر.
وبينهم إبراهيم (27 عاما) الذي يقول: «الثورة أصبحت بالنسبة إلينا مصدر رزق جديد وفي الوقت نفسه نتظاهر مع الناس»، في إشارة إلى تأييده لمطالب الحراك الشعبي.
ويبيع إبراهيم الكعك يوما والذرة والفول في يوم آخر.
يراقب من بعيد المكان الذي خبأ فيه أغراضه خوفا من أن تكتشفها القوى الأمنية وتصادرها، لأن وقوف العربات في المكان ممنوع.
ويروي الشاب الأسمر الملتحي ذو البنية القوية، لفرانس برس أنه يعمل أصلا في تركيب الجبس في ورش البناء، ويقول: «انتقلنا إلى هنا لنعمل مع بدء الاحتجاجات بعدما لاحظنا وجود أعداد كبيرة من الناس.
هذا أفضل من البقاء من دون عمل»، مشيرا إلى أن عمله تراجع كثيرا منذ أشهر جراء ركود يشهده قطاع البناء.
اضطر إبراهيم، المسؤول وحده عن والدته المريضة بعد وفاة والده، إلى ترك الدراسة عندما كان في البكالوريا ليسعى وراء لقمة العيش.
ويقول: «ليس لدى والدتي ضمان اجتماعي ولا ضمان شيخوخة وأنا أمضي سنوات عمري أدفع مصاريف طبابة وأدوية».
على بعد عشرات الأمتار، تعلو هتافات «الشعب يريد إسقاط النظام» و«ثورة! ثورة!» ما ينذر بوصول مجموعات من المتظاهرين.
يهرع ابراهيم إلى مخبئه ويخرج البضاعة ويبدأ البيع، موضحا أن القوى الأمنية تتوقف عن تسيير دوريات عندما تزدحم الساحات.
«عربة الثورة»
على مقربة من المكان، يتجمع كثيرون حول «عربة الثورة» كما يسميها صاحبها، فيطلب أحدهم ذرة مع عصير الليمون وفلفل حار فيما يفضل آخر الفول.
ويوافق بائع الذرة والفول عماد حسن سعد (29 عاما) الذي يوقف عربته عادة على كورنيش عين المريسة في غرب بيروت، على أن الاحتجاجات باتت «مصدر رزق جديد»، مؤكدا أن «المبيع هنا أكثر لأن كثافة الناس أكثر».
ويساعد عماد 3 شبان، لتلبية طلبات الزبائن: أحدهم يقشر حبات الليمون، ويقوم الثاني بتقطيعها بسرعة على لوح خشبي، أما الثالث فيسحب عرانيس الذرة من ماء مغلي موضوع في قدر كبير على نار قوية، ويحضر الأطباق ويقدمها إلى الزبائن.
ويقول إبراهيم إن كل بائع: «يجني ما يتراوح بين 50 و60 ألف ليرة يوميا (بين 35 و40 دولارا أميركيا) إذا كان المبيع جيدا»، مشيرا إلى أنه يرضى بهذا الربح القليل ليؤمن مصاريفه.
وتؤكد المتظاهرة فريال شمص (52 عاما) وقد لفت وشاحا بألوان العلم اللبناني حول رقبتها، لوكالة فرانس برس «أنا أشجعهم لأن أحدا لا يعرف» الظروف المعيشية التي يعانون منها.
تحمل المتظاهرة دانا زيات (21 عاما) طبق فول بيديها وتقول «تجمع الناس هو فرصة لهؤلاء الشباب ليتمكنوا من العمل ولو لفترة مؤقتة».
وتضيف صديقتها جنى خزعل «هذه الثورة فتحت مجالا للعمل للشباب الفقراء الذين لم تتح لهم فرصة التعلم أو غير القادرين على استئجار محل».
«نوع الجبن»
ويكثر خصوصا في الساحة بائعو الكعك، والكعكة طعام الفقير في لبنان. على الرغم من ذلك، لم يكن أحدهم قادرا على بيع ما يكفي لتأمين قوته قبل «الثورة».
ويروي بائع كعك رافضا الكشف عن هويته، لفرانس برس «في اليوم الأول للاحتجاجات كان بحوزتي كعك وتنقلت في مناطق عدة لكنني لم أتمكن من بيعها، فنصحني أصدقائي بأن أحاول بيعها في وسط بيروت وهكذا فعلت والحمد لله لا نزال نعمل».
خلف طاولة بلاستيكية يقف ليلبي طلبات الزبائن. يسأل عن نوع الجبن الذي يريدونه في الكعكة. بالكاد يرد على فريق فرانس برس.
ويشكو البائعون من معاملة القوى الأمنية لهم حتى في موقع بيعهم الرئيسي في عين المريسة.
ويروي أحد الشباب العاملين على العربة، رفض الكشف عن اسمه، أن السلطات تحظر عملهم لأن العربات غير قانونية وقد تم تحرير 270 محضر ضبط بحقه يبلغ قدر كل واحد منها حوالى 450 ألف ليرة لبنانية (300 دولار أميركي)، مشيرا إلى أنه يحتاج إلى عشرين يوم عمل متواصلة لدفع مخالفة واحدة.
ويقول بائع نرجيلة يملك محلا لبيع خدمة النرجيلة في منطقة الروشة في غرب بيروت وانتقل مؤخرا إلى ساحة الشهداء، إنه يخرج نراجيله ويبدأ بالعمل في وقت متأخر مساء لتجنب أن تصادرها القوى الأمنية.
ويضيف أنه سيعود إلى محله الرئيسي عندما «ترحل الطبقة السياسية».