بيروت - جويل رياشي
حزينة مدينة الحرف، جبيل المدينة المتوسطية التي اختيرت عاصمة السياحة العربية منذ أعوام قليلة، غارقة بسواد العتمة! فمصابيح الإنارة العامة مطفأة، ولا تعمل إلا عبر شبكة الكهرباء الرسمية، أي انك اذا مررت بها بغير توقيت «كهرباء الدولة» فنصيبك مشوار مظلم.
وبما أن لبنان يغرق في عتمة قاسية نتيجة ارتفاع ساعات التقنين في التيار الكهربائي المدعومة تكلفته من الحكومة، فإن أعمدة الإنارة في غالبية البلديات غير موصولة بخدمة المولدات ذات التعرفة الخاصة. المشهد يذكر بليالي «حرب يوليو» 2006، حيث كانت المدن والبلدات اللبنانية تمتنع عن توفير الإضاءة ليلا في الشوارع والساحات العامة، خشية انقشاع الرؤية أمام الطيران الحربي الإسرائيلي، الذي كان يقصف منشآت مدنية ويدمر البنى التحتية من جسور ومحطات كهرباء ومياه في كل المناطق اللبنانية. قبل ذلك، يتذكر الجيل القديم كيف كانت الأسر تعمد إلى طلي مصابيح الإنارة باللون الأزرق، لظروف مماثلة تعود الى حرب الأيام الستة مع إسرائيل في أكتوبر 1967. عتمة كاملة، ترافق شلل الحركة في المدينة اعتبارا من ساعات المساء الأولى، ذلك ان المقاهي والمطاعم مقفلة، ولا يتجاوز عدد تلك التي اختارت فتح أبوابها لاستقبال زبائن لطالما جهدوا لحجز أمكنة لهم، عدد أصابع اليدين فقط!
من مدرسة السان جورج القديمة في منطقة المربعة الممتدة من المدخل الشمالي للمدينة، الى بولفار العميد ريمون اده المؤدي الى ميناء جبيل صعودا الى ساحة الاونيسكو، وحده مطعم بيبي عبد يشرع أبوابه أمام رواد اعتادوا عليه منذ أيام الحرب الأهلية (1975 - 1990).
مقابل القلعة والسوق القديم، تجد مطعم «لوكندا» التابع لشركة تدير شبكة مطاعم «بابل» في لبنان والدول العربية وقد رفع العشرة. مطعم صغير تحته يغص بالزبائن وهو مطعم فينيقيا الذي تغيب عنه أعمدة الدخان التي اعتادت ان ترتفع من جراء النراجيل. صعودا في طريق العودة من ساحة الأونيسكو الى سوق جبيل، لا يختلف المشهد. وتبلغ الذروة في «شارع المطاعم» المستحدث منذ أعوام، مع اقتصار الخدمة على مطعمين اختارا المجازفة وتشريع أبوابهما لاستقبال زبائن. في حين أقفلت عمدا مطاعم أخرى، تفاديا لإقفال نهائي، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وعصر نفقات التشغيل من الاستعانة بموظفين واستهلاك التيار الكهربائي بتعرفتيه. من جهتها، فتحت سلسلة مطاعم القدوم الشعبية أبوابها مقابل سرايا جبيل، فيما العتمة تحول دون التجول سيرا على الأقدام في شوارع المدينة القديمة. مشهد لا عهد لجبيل به، التي لطالما اعتبرت «الأحلى والأكثر جذبا للسياح» على الساحل اللبناني.
في المقابل، خالفت عمشيت البلدة الأقرب الى ضيعة منها الى مدينة الصورة وأضاءت بلديتها الكورنيش البحري الذي يحمل اسم الرئيس السابق ميشال سليمان، فغص بحركة رواد غالبيتهم من المشاة وراكبي الدراجات الهوائية. وفتح عدد من قهاوي الرصيف التي تقدم المأكولات أبوابه أمام الرواد. هي قهاو جاهزة من خشب خاص بالأكشاك، لكن البعض منها يقدم نوعيات مميزة من الأطعمة، ويصر أصحابها على الإفادة من واقع «الإقفال القسري» للجارة جبيل ليلا. في المحصلة، لا يمكن الاستنتاج سوى ان منطقة جبيل التي لطالما اعتبرت نموذجية لبقائها فترة طويلة خارج أتون الحرب اللبنانية، واحتفاظها بمنظومة التعايش بين الموزاييك اللبناني، لا تستطيع مخالفة أحوال بلد يغرق في أزمتين اقتصادية ونقدية لا عهد له بهما.
الهدوء المُبالغ فيه الذي تنعم به مدينة جبيل لم يكسره نهارا فتح المسابح الشهيرة في المنطقة أبوابها أمام الرواد. السواح الذين لم ينقطعوا عن المدينة الساحرة حتى في عز حرب يوليو ٢٠٠٦، أبعدهم فيروس كورونا في زمن السلم، ولكنه الزمن الأصعب اقتصاديا في تاريخ لبنان الحديث، رغم انه يقع في مئوية ولادة لبنان الكبير (1 سبتمبر ١٩٢٠)