فقدت الليرة السورية قيمتها الى حد كبير منذ بداية الاحتجاجات عام ٢٠١١، إذ كان سعر صرف الدولار ٤٧ ليرة سورية، علما أن سعر صرف الدولار استنادا الى النشرة الرسمية للمصرف المركزي السوري حاليا ثابت عند ٤٣٥ ليرة. وهوت الليرة السورية بنسبة 40% في الأسابيع التي تلت تفاقم أزمة لبنان الاقتصادية عقب الثورة. وتجاوزت سعر صرف الدولار جدار الـ ٩٠٠ ليرة، في أدنى سعر في تاريخ البلاد. ويتوقع خبراء أن يتجاوز سعر صرف الدولار ألف ليرة في الأشهر المقبلة، علما أنه لم يكن يتجاوز ٦٠٠ ليرة حتى سبتمبر الماضي.
ويعتبر هذا الانهيار للعملة السورية الأسوأ والأسرع في التاريخ الحديث لسورية، وهو مرتبط على نحو وثيق بما يحصل في لبنان. ذلك أن النظام المصرفي اللبناني كان تاريخيا ملاذا آمنا لرجال الأعمال السوريين الذين فضلوا إيداع مدخراتهم المصارف اللبنانية التي تعتبر أكثر أمانا وأقل تقييدا من نظيرتها السورية. ومنذ عزلت العقوبات الغربية النظام السوري عن النظام المالي العالمي، مع اندلاع الحرب السورية ٢٠١١، اعتمد اقتصاد سورية على الروابط المصرفية مع لبنان للمحافظة على حركة الأعمال والتجارة، ولجأ أثرياء سورية الجدد الذين أفرزتهم الحرب وشملتهم العقوبات الغربية الى مصارف لبنان. ولكن مع القيود التي تفرضها المصارف اللبنانية على سحوبات العملة الصعبة والتحويلات النقدية إلى الخارج، تعذر وصول هؤلاء إلى أموالهم. وقال مصرفي لبناني بارز يتعامل مع حسابات أثرياء سوريين إن تلك الودائع حبيسة الآن. يمكنك تصور تبعات الأزمة التي تبدأ بالظهور على السطح في الاقتصاد السوري. وحتى الآن، يلجأ رجال الأعمال السوريون الى السوق السوداء لشراء الدولار وتحويله الى الخارج حفاظا على استمرار الأعمال التجارية.
مع أن الاقتصاد السوري غير مرتبط كليا بالاقتصاد العالمي، فإنه يعتمد بشكل رئيسي على إمدادات النفط ومشتقاته من إيران والزيارات من العراق والتحويلات من الأردن. غير أن النظام المصرفي اللبناني يعد بمثابة رئة الاقتصاد السوري، فيما تعد موانئ لبنان نافذة الحكومة السورية للالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية التي فرضت بعد ٢٠١١. وأوضح خبير مالي أنه بسبب التغيرات في السياسات المالية للمصارف اللبنانية قام آلاف السوريين بسحب أموالهم المودعة في المصارف السورية الخاصة المرتبطة بالمصارف اللبنانية تخوفا من أن تعمل تلك الأخيرة على تغيير في سياساتها النقدية كما حصل مع المصارف الأم في لبنان. وأشار عاملون في مصارف سورية خاصة إلى عمليات سحب كبيرة للمودعين السوريين بالليرة وتوقف عمليات الإيداع والتحصيل المصرفي.
كانت السلطات السورية قد فرضت قيودا على رجال الأعمال لمنع إيداع أموالهم في مصارف لبنانية مقابل التركيز على المصارف الحكومية في دمشق. وفرض مصرف سورية المركزي تعليمات على المصارف لوضع سقف لعمليات السحب عند خمسة ملايين ليرة في اليوم، ثم خففت إلى عشرة ملايين. ومن الإجراءات الأخرى التي أسهمت في انخفاض سعر الصرف، توقف إجازات الاستيراد والتسهيلات المصرفية التي كانت تتم عبر طريق المصارف اللبنانية، إضافة الى إلغاء دمشق إجازات الاستيراد الشهر الماضي لضبط انهيار العملة السورية.
وقال خبراء إن دمشق تعتمد على الموانئ وشركات لبنانية لتجاوز العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ذلك أن ٩٠% من الصفقات النفطية وعمليات الاستيراد إلى سورية تمر عبر تلك القنوات اللبنانية لتجاوز العقوبات. كما أن عمليات استيراد المواد الأولية اللازمة لتشغيل القطاعات الصناعية الخاصة والعامة تتم عبر هذه الشركات.
وحسب خبراء سوريين، هناك جملة من الأسباب المحلية والإقليمية والدولية لتدهور سعر الليرة السورية، بينها فشل مشروع صندوق دعم الليرة السورية التي قامت به دمشق بالتعاون مع القطاع الخاص السوري وغرف التجارة والصناعة، حيث عاد تدهور الوضع المالي وبسرعة وانعكس بشكل كبير على سعر صرف الليرة بسبب الخوف من انعكاسات ذلك الحراك على الوضع العام في سورية وعلى الاقتصاد بشكل محدد، بالإضافة إلى أن السوريين بادروا بتحويل أموالهم إلى دولار والاحتفاظ بها معهم والابتعاد عن المصارف. وفرضت السلطات على كبار رجال الأعمال قبل أسابيع إيداع أموال بالقطع الأجنبي في المصارف الحكومية والمصرف المركزي. وعقد في أحد فنادق دمشق اجتماع لهذا الغرض، لكن الالتزامات لم تصل إلى السقف المطلوب من السلطات وكانت تتراوح بين ٣٠٠ و٥٠٠ مليون دولار، إذ إن التعهدات كانت قليلة ووصلت في بعض الأحيان إلى بضعة آلاف من الدولارات الأميركية.
ففيما يعزو مسؤولون في النظام السوري هذا الانهيار إلى تزايد الاستيراد من السوق الدولية التي تعتمد بدورها على العملات الأجنبية، ولاسيما منها الدولار، يورد الباحث الاقتصادي السوري زكي محشي في معهد «تشاتام هاوس» سلسلة عوامل أدت في رأيه الى تدهور قيمة الليرة السورية، في طليعتها الانهيار الاقتصادي الناجم عن الحرب. فبحلول العام ٢٠١٨، قدرت الخسائر الاقتصادية المتراكمة بنحو ٤٢٨ مليار دولار، أي ما يعادل ستة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي عام ٢٠١٠. وتسبب الصراع أيضا بإعادة تخصيص الموارد للنشاطات الحربية الأمر الذي يؤثر على الإنتاجية وتاليا على استقرار الليرة السورية. وساهم في الأزمة التراجع الكبير في الصادرات وزيادة الواردات، علما أن كل مدفوعات الاستيراد تقريبا تحصل بعملات أجنبية، مما يزيد الضغط على قيمة الليرة السورية.
وفتحت إيران خطوط ائتمان للنظام السوري تقدر بستة مليارات دولار لاستيراد النفط والسلع الاستهلاكية، فضلا عن الدعم المالي للنظام السوري. لكن محشي يقول إن زيادة الدين لإيران قد تساهم في استقرار العملة السورية على المدى القصير، إلا أنه قد يزيد الضغط لخفض العملة على المدى البعيد.
واضطلعت العقوبات الدولية المقروضة على قطاعات عدة، بينها الطاقة والتعاملات المالية بدور في تدهور الوضع المالي. ففي السنتين الأخيرتين، شددت الولايات المتحدة عقوباتها باعتمادها قانون القيصر الذي هدف الى عزل النظام السوري، مما أدى إلى رفع قيمة الاستيراد وزاد الطلب على العملات الأجنبية. وتأثرت أيضا التحويلات الأجنبية التي تقدر قيمتها بـ 5.5 ملايين دولار يوميا، إضافة الى الاستثمارات والصادرات الأجنبية.
وكان للسياسات المالية التي اعتمدها المصرف المركزي منذ بداية النزاع أثرها أيضا، فضلا عن المضاربات المالية التي عجزت الحكومة عن السيطرة عليها. وكما في لبنان، ليس انخفاض قيمة الليرة السورية وتقلباتها العالية إلا انعكاسا للوضع السياسي والاقتصادي الهش في البلاد.